في الوقت الذي ما تزال فيه آثار العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة ماثلة في كل حجر وشارع ومخيم، تتكشف فصول أخرى لا تقل قسوة عن مشهد الدمار… إنها شهادات المعتقلين الفلسطينيين من غزة، الذين ما زالوا يقبعون في معسكرات وسجون الاحتلال، يروون بمرارة حكايات تتجاوز حدود الألم البشري.
600 يوم مرّت على مجزرة الإبادة الجماعية في غزة، إلا أن ما خفي في زنازين “سديه تيمان” و”عوفر” أشد هولاً. فهناك، تمضي آلة التعذيب في مهمتها الباردة، بصمت وخبث، على أجساد أنهكها القيد والعزل والتنكيل.
الطواقم القانونية التابعة لهيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير الفلسطيني نفذت خلال شهر مايو الجاري سلسلة زيارات لمعتقلي غزة، ونقلت مشاهد صادمة عن واقع لم يعد يخضع حتى لأدنى معايير الكرامة الإنسانية. روايات المعتقلين تكشف عن منظومة تعذيب ممنهجة تبدأ منذ لحظة الاعتقال، مروراً بالتحقيق، وصولاً إلى تفاصيل الحياة اليومية القاتلة داخل المعسكرات.
المعتقل “ي.س” يروي: “جردوني من ملابسي بالكامل، صوّروني عبر الهاتف، وتم تهديدي بتحقيق “الديسكو” الذي استمر لأربع ساعات. طوال عشرين يوماً لم أفك القيد عن يدي، وكل جلسة محكمة لم تتجاوز ثلاث دقائق عبر الهاتف. لم أبدل ملابسي سوى مرة واحدة منذ وصولي لسديه تيمان، ولا أواني طعام لدينا، نأكل بأيدينا كالبهائم”.
أما المعتقل “م.د”، فيقول إنهم محتجزون في بركسات، يُمنعون من الحديث، مجبرون على الجلوس الدائم، وتُحدد وتيرة الاعتداءات على مزاج الجندي الإسرائيلي. “منذ اعتقالي قبل أكثر من ثلاثة أشهر، لم أبدل ملابسي، نُضرب إن رفعنا رؤوسنا، ونُذل في كل لحظة”.
الاعتداءات لا تقتصر على الإهمال، بل تمتد لاستخدام الماء البارد كأداة تعذيب، وحرمان من العلاج حتى للمصابين.
المعتقل “أ.ر”، المصاب في الكتف والغضروف، يروي: “توسلت لأيام من أجل مسكن للآلام، دون استجابة. نحن نُعاقب بشكل جماعي، ونُذل أمام بعضنا البعض”.
أما المعتقل “أ.ل”، فقال: “منذ خمسة شهور لم أبدل ملابسي، نجبر على الاستحمام بالماء البارد، ونُعاقب جماعياً، ونشاهد زملاءنا يُعذبون أمامنا لترهيبنا. لا توجد أوانٍ، ولا أدوات نظافة، وحتى دورة المياه لا نستخدمها سوى مرة واحدة يومياً”.
هيئة شؤون الأسرى ونادي الأسير شددا في تقريرهما على أن هذه الشهادات ليست استثناءات، بل تعكس سياسة ممنهجة تستهدف كسر إرادة المعتقل الفلسطيني، وتستكمل مسلسل الإبادة خارج ميادين القصف، داخل زنازين التعذيب والعزل والإذلال.
الحقائق تشير إلى أن عدد معتقلي غزة المحتجزين بوصفهم “مقاتلين غير شرعيين” بلغ 1846 معتقلاً، وفق آخر إحصائية للاحتلال، وهو رقم لا يشمل جميع الأسرى من غزة، ولا يأخذ بعين الاعتبار عشرات الشهداء الذين قضوا تحت التعذيب، أو ما يزالون ضحايا الإخفاء القسري.
ما يجري في سجون الاحتلال اليوم هو جريمة ضد الإنسانية، جريمة مستمرة بلا مساءلة، بلا صور، بلا أصوات.. سوى صرخات قادمة من جحيم الزنازين، قد لا تصل إلى أحد، لكنها تصرخ: نحن بشر..
…………..
هذه الشهادات ليست استثناءات، بل تعكس سياسة ممنهجة تستهدف كسر إرادة المعتقل الفلسطيني، وتستكمل مسلسل الإبادة خارج ميادين القصف، داخل زنازين التعذيب والعزل والإذلال