اسماعيل الريماوي يكتب : حين تُترك غزة وحيدة.. خيانة الصمت العربي ووهم النجاة الفردية

اطلس:بينما تنهال الصواريخ الإسرائيلية على غزة، وتحاصرها آلة التجويع والقتل والقهر، تقف أمة كاملة على شفير العار، مكتفية بالمشاهدة أو بالتبرير، وكأن ما يحدث هناك لا يعنيها، وكأن الدم الفلسطيني الذي يُهدر كل ساعة ليس من دمها، وكأن الأشلاء المتناثرة في الأزقة والبيوت ليست امتدادًا لأجساد أبنائها، وكأن غزة وطن غريب لا صلة له بتاريخها ولا لعروبتها ولا لإنسانيتها، في هذا المشهد الكارثي، لم يكن الغياب الرسمي العربي مجرد تقصير، بل كان تواطؤًا بالصمت، وخيانة بالخذلان، وتفريطًا بأقدس القضايا، تحت وهم قاتل مفاده أن الدور لم يحن بعد، وأن من ينجو من الحريق اليوم سيبقى سالمًا غدًا، كأن آلة الاحتلال تفرق بين بقعة وأخرى، أو كأن الصمت يمنح حصانة في زمن الاستباحة .

الأنظمة العربية، وفي مقدمتها من طبّع ومن سكت ومن ساوم، تركت غزة في العراء، تُواجه وحدها واحدة من أعتى الحملات التدميرية في التاريخ الحديث، دون أن تُحرّك جيوشها، ولا حتى ضميرها السياسي ، جُلّ ما فعلته هو إصدار بيانات باهتة، أو فتح معابر إنسانية موقّتة لإسكات النقد، أو احتضان قمم عاجزة تُجيد تجميع الصور ولا تجيد صناعة القرار ، لا أحد تجرأ على كسر معادلة الهيمنة الأمريكية، ولا أحد امتلك شجاعة الرد على الإرهاب الإسرائيلي، ولا حتى من باب التوازن الرمزي أو التأكيد على الحد الأدنى من الكرامة الوطنية .

غزة لا تحتاج فقط إلى مساعدات، بل إلى موقف عربي حقيقي يُدرك أن هذه المعركة ليست فلسطينية فحسب، بل معركة على وجه المنطقة كلّها ، من يظن أن الصمت سيحميه، يُراهن على سراب، ومن يعتقد أن الموت سيتوقف عند حدود غزة، يعيش في وهم ، فالاحتلال لا يرى فارقًا بين جنوب لبنان وغزة، ولا بين صنعاء ودمشق، ولا بين الضفة وعمان أو القاهرة، مشروع التفتيت الإسرائيلي الأمريكي يستهدف كل ما تبقى من روح في هذه الأمة، وكل من تبقى له موقف.

إن الانسحاب العربي من معركة غزة، ليس موقفًا حياديًا بل انخراط في جريمة أكبر، جريمة ترك شعب يُذبح لأنه قرر أن لا يستسلم ، وما أشد قسوة أن تتحول الأمة من حاضنة مقاومة إلى متفرج سلبي أو شريك معلن أو صامت، يلهث خلف استقراره المؤقت، ويؤجل غضبه حتى يأتي دوره، ولكن حين يأتي الدور، لن يجد من يدافع عنه، لأن من ترك غزة اليوم، لن يجد غدًا من يقف معه حين ينادي ولا يجيبه أحد .

إن ما يجري في غزة ليس معركة حدود، ولا مجرد جولة بين احتلال وشعب محتل، بل هو اختبار وجودي للأمة كلها، يُفرز فيها الشرفاء من الخانعين، ويُسقط فيها الأقنعة عن وجوهٍ طالما ادعت الحرص على فلسطين، وفي هذا المشهد الملطخ بالخذلان، تبقى غزة، رغم الحصار والدمار، هي الكلمة الأخيرة في معجم الكرامة، وهي البوصلة التي لا تخطئ الاتجاه، أما من توهّم أن الصمت يحميه، فليُدرك أن من ترك غزة وحدها، إنما يحفر قبره بيده، وأن النار التي أُضرمت في خاصرة الأمة لن تتوقف عند حدودها، بل ستمتد لتحرق كل من ظن أن الخيانة مخرج، وأن الحياد موقف ، فإما أن نكون مع غزة الآن، أو لن يكون لنا مكان حين يُكتب التاريخ من جديد.

عن Atlas

شاهد أيضاً

غزة .. مذبحة العصر !بقلم أمين الحاج

ستمائة يوم مرت على المذبحة التي لم يعرف لها التاريخ المعاصر مثيلا، ستمائة يوم من …