سيف عبد الجليل يكتب : مُقَدَّرات الشّعب وصفاته بِإعتبارهِ الجيش الأول: أولوية الوحدة الوطنية

وفقاً لما تبيّن للبشرية بتعاقب الأزمنة والعصور القديمة والحديثة، والتي تشمل زمننا الذي نعاصره ونشهد على تقلّباته المأساوية، إن الشعب كان وما زال خط الدفاع الأخير وخط الهجوم الأول. فما قامت عليه أعظم الحضارات والإمبراطوريات التي إمتدت نفوذها وراياتها بين أطراف الأرض كان مُعمّراً بسواعد الشعوب التي كانت تحمل في نفوسها فخر بالوطن وغيرة عليه ووحدة وطنية على حبه وتعضيد لجيشه وإنتماء لا ريب فيه له. على الرغم من أن هذه المشاعر والعواطف الشعبية في بعض الأحيان تقع في مكائد سياسية إستراتيجية دِعائية خادعة تهوي بالشعوب إلى الهاوية، ولكنها في أحيان أخرى ترتكز على ما هو منطقي وواضح لضمائر الشعوب الحرة والواعية التي لا ترضى بمحاولات الإخضاع والإذلال أو بِفرض الظلم والقهر والسياسات الفاشية عليها. وإذا صنع الشعب من هذا المنطق الأزلي بوصلة لتحديد إتجاهاته الإنسانية والوطنية، فحينها يصبح هذا الشعب فولاذ مرصوص لا يلين إلّا بتخلّيه عمّا يمثل له أحقّية شرعية ومبرر لتسجيل التضحيات وصنع العجائب والنوادر.

الشعب وجيشه النِظامي
في العديد من الحالات الإنسانية الوطنية الطارئة والعصيبة، وضع الشعب على عاتقه مسؤولية تدعيم جيشه النظامي والإلتحاق به ودعمه عسكرياً ومادياً ولوجستياً في ظروف الحروب المباشرة بكافة دوافعها وأسبابها. وبعض الأحيان يكون ذلك مُتأتياً لإضطرار الحكومات لفرض التجنيد الإجباري على شعوبها لأسباب وجودية ولعدم إتاحة خيارات أخرى، والإستسلام لم ولن يكون أبداً واحداً منها. فإذا درسنا قوام الجيوش الأوروبية في الحربين العالميتين، سنستنتج أن جيوش الدول الأوروبية كان يتم تعبئة صفوفها بمدنيين من إعتياديي الصفات والحِرَف، والذين تلقّوا تدريبات بدنية عسكرية بدائية ليشكّلوا الصف الأول لمواجهة الفاشيّة. ومن هذه الدول؛ بريطانيا والإتحاد السوفييتي وفرنسا وغيرهم ممن لعب دوراً حاسماً في الحربين. ومن الأمثلة القريبة جغرافياً وقومياً، وقوف أبناء صحراء سيناء إلى جانب الجيش المصري في حرب أكتوبر من عام ١٩٧٣؛ حيث يُعَد صمود قبائل وعشائر سيناء بجانب جيشهم واحد من أبرز العوامل التي مكّنت الجيش في إختراق خطوط العدو الصهيوني. والمحصّل الواضح هو أن الشعوب لم يتبدّل حالها في كونها الخطة الأولى والبديلة والأخيرة لبناء قواعد الجيش وأعمدته وسقفه.

شعوب ضد الإستعمار
في الأماكن التي تعرضت للإستعمار على مر العصور، وجد الشعب نفسه في حالة موجهة مباشرة مع حتمية واقعة دفعته لمواجهة المستعمر دون أن يكون له جيش نظامي يحمي بيته ومسقط رأسه. لذلك، بايع الشعب وطنه على الموت وجيّش بعضه البعض وحَمَل سيوفه، أو بنادقه التي إشتراها بِعرق جبينه وحرّ مالِهِ، أو حجارته، أو أي أداة تفوح برائحة الأمل الوطني لِيُجالد ذلك المستعمر بكل ما أوتي من قوة وقطرات من الدم النقي. ومن الأمثلة على ذلك كان الشعب الجزائري الذي جابَهَ الإمبريالية الفرنسية لقرابة ١٣٢ عام من النضال لإسترجاع حريته وسيادته، والتي لقي فيها أكثر من مليون مواطن جزائري نَحبَهم في مجازر وحشية. ومشابه للشعب الجزائري الكثير من الأمثلة كأفغانستان وفيتنام والعراق وسوريا، وفلسطين التي ما زال يختلف تنظيماتها على مبادئ آيديولوجية؛ ولكن يجتمعون على كُره الإحتلال وجرائمه بحق الشعب الفلسطيني. والمضمون من هذه الأمثلة هو أن بقاء الوطن مربوط بحبل وثيق ببقاء الشعب ووِحدته وصموده على أرضه وأصالته في إهداء النفيس لوطنه المِعطاء.

الشعب الفلسطيني وسماته
لنتناول الآن النموذج الشعبي الفلسطيني وندرس صفاته الوطنية في سياق البنيوية العامة وأقسامها. على الصعيد  الإجتماعي والإقتصادي، يتّسم الشعب الفلسطيني ويتميّز عن غيره من الشعوب بكونه مترابط ومتآلف إجتماعياً لدرجات عجائبية في بعض الأحيان، غالبية سكانه قرويين، أو من أصول قروية، بسيط في أسئلته وطموحاته ونشاطاته، يمتلك الكثير من الحلول الإقتصادية والمعيشية والأجوبة الفلسفية، شعب مثقف بالفطرة ويتبنّى الآراء والنظريات الخاصة به بشكل دائم وحثيث، ويكرّم حينما يثق، شعب عملي ومجتهد ويحب الحياة ما إستطاع إليها سبيلاً، خاصة عندما يعمل على مشروع شخصي؛ حتى لو كان ذلك المشروع لا يدر عليه إلا بالقليل المتقطّع.

ومن الزاوية السيكولوجية، إن الشعب الفلسطيني، دون عن غيره من الشعوب الأخرى، قد حقق تعايشاً متناغماً بين الأمل، وبين ما أسميه بمنظور شخصي، “الإحباط أو الإكتئاب الفلسطيني”. إن الفرد والمواطن الفلسطيني الشريف والمكرَّم برباطه وكينونته في أي مكان يتواجد فيه؛ سواء في قطاع غزة أو الضفة الغربية أو الداخل المحتل أو الشتات، قد تفرّد بطُبعة متطورة من الجَلَد، وعدم التمعّن الفائض في مآسيه، والقدرة التامة والأسطورية على فرض سيادته النفسية على الأوضاع والأقدار. وكذلك يصاحب هذه القدرات النفسية المتينة مستويات لامتناهية من الشعور بالكرامة، وبلاغة متّصلة بالمنطق اللغوي الفصيح الذي تطوّر بيولوجياً من خلال تَعاقب الحضارات على أرضه.

ومن الأبعاد السياسية والشعبية والوطنية، يحمل المجتمع الفلسطيني في طيّاته بعض الخلافات السياسية التنظيمية، والتي يجب أن يجد لها حل جذري. ومن إنعكاسات وأولويات أخرى، يجتمع الشعب الفلسطيني على أهداف وصفات موحّدة، ومنها: الرغبة الأبدية في تحرير الأسرى وبيت المقدس والأراضي المحتلة كافة، وعودة اللاجئين، وإقامة دولة فلسطينية ذات سيادة وحق كامل في تقرير المصير، وبُغض المحتل والخونة، والعيش على ما هو متوفر، والمقاومة بأي وسائل متاحة، والتَّوق الجدّيّ الشديد للوحدة الوطنية وتجاوز الخلافات السياسية، ووقف الحرب المستمرة على قطاع غزة بشكل أوليّ وعاجل. إضافة إلى ذلك، إن الإنسان الفلسطيني بإعتباره إنسان سلميّ لا يتمنّى الحروب، يُمهل عدوّه ولا يهمله. وما يظن عدوه منه ضعفاً، إنما هو إختيار السِّلم على الحرب في كل مرة يكون فيها خيار السِّلم متاح. وجرائم وإنتهاكات وحماقات الحركة الصهيونية وحكومتها الفاشية وجيشها ومستوطنيها في غزة والضفة الغربية، ومدينة القدس بالذات، لن تستمر إلى الأبد، بل ستقف يوم ما عند النقطة أو المرحلة التي لا يكون فيها خَيار السلام متاحاً أمام الفلسطيني.

الوحدة الوطنية
لكي نضع النقاط الأخيرة على الحروف، إن الشعوب لا تعني فقط دولة أو مكان، بل وجود وبقاء وصمود على آرائها المؤيدة من السماء. ومفهوم الدولة يختلف وتتبدّل معالمه، والحدود والأموال تزيد أو تُنتقص وتُقسّم، ولكن الشعب الصامد لا يقبل القسمة مهما كثرت تجاعيد الخلافات الحاصلة؛ وذلك لأن الفصائل والتنظيمات السياسية والعسكرية هي مجموعات من الشعب، والشعب هو مجموع الجيش. ومهما وقّعت الحكومات الخائنة والمطبّعة على إتفاقيات مع العدو الأبدي للقومية العربية والإنسانية، لن تمرّ هذه الإتفاقيات المذلّة والمهينة لتاريخ شعوبها وتمساكها مع بعضها البعض؛ إلا إذا سمحت الشعوب بذلك، وعندها تخسر كل ما تجسّدت له من مبادئ.

الرسالة الخالدة للشعوب يجب بشكل قاطع لا جدال فيه، وأسلوب جرئ لا يعرف الخوف من أي شئ أو القلق على أي شئ، أن تكون مكتوبة بالدماء والتضحية؛ وإلا فلن تكون هذه الشعوب إلا عدو خبيث لنفسها وجيش إبادة لوجودها الفكري والفعلي. بناء على ذلك، على كل ركن من الأركان الجغرافية للشعب الفلسطيني أن يطوّروا آليات جديّة للدفاع عن أنفسهم وبيوتهم وعائلاتهم في ظل الإستهدافات الإستيطانية لقراهم ومدنهم. وعلى كل صاحب قرارات سياسية في قطاع غزة والضفة الغربية، بما أنهم ينتمون جميعاً إلى الشعب الفلسطيني، أن يجلسوا على طاولة المصالحة الوطنية بنوايا مستقيمة وصادقة للحفاظ على الإئتلاف الشعبي الفلسطيني لمواجهة الأخطار والأهوال الراهنة والمُحدقة، وتحقيق الآمال الأممية والوطنية المرجوّة.

والخيار الأفضل والأنسب لترجمة ذلك على أرض الواقع في اللحظة الآنيّة هو تطبيق ‘إتفاق بكين’ (المبادرة الوطنية الفلسطينية) الذي يُفضي إلى تشكيل حكومة وفاق وطني في قطاع غزة والضفة الغربية بإنتخابات ديمقراطية شرعية نزيهة. فإن الشعب الفلسطيني قد أثبت للبشرية كافة إستحقاقيته وإنسانيته لكي يعيش في سِلم أهلي وأمن سياسي يقوده ويرعاه حكومة وفاق موحّدة ذات طابع واحد يختارها أفراد المجتمع… وهذه هي المنهجية المُثلى لكي يمضي الفلسطيني قُدُماً بكل طاقته نحو ما يمكن أن يتم تطبيقه من الطموحات التي يتطلّع إليها.

عن Atlas

شاهد أيضاً

إيران بين الخسائر الاستراتيجية والهيبة الشعبية: دعوة لإعادة صياغة العلاقة العربية – الإيرانية

كتب علاء عاشور: رغم ما تعرضت له إيران في الآونة الأخيرة من ضربات قاسية طالت …