اطلس: لا يُمكن فهم تغوّل المستوطنين الإسرائيليين في الضفة الغربية دون التوقف عند الجذر الديني الذي يمنح هذا الإرهاب شرعيةً مزيّفة ومُقدسة ، فالعنف الذي يُمارَس ضد القرى الفلسطينية هذه الأيام ، من حرق البيوت واقتلاع الأشجار إلى قتل المدنيين، ليس مجرّد سلوك فردي شاذ، بل هو انعكاس لعقيدة متطرفة تتغذى على فتاوى حاخامية تعتبر الدم الفلسطيني مباحًا، والأرض الفلسطينية ميراثًا إلهيًا لشعب مختار.
لطالما طلب المستوطنون المنتمون لتيار “الصهيونية الدينية” من الحاخامات إصدار فتاوى تتيح لهم استخدام العنف باسم الرب، ووجدوا في المؤسسة الدينية الحاخامية ملاذًا شرعيًا يحميهم من مساءلة القانون، بل ويمنحهم شعورًا بالبطولة ، ففي واحدة من أكثر الفتاوى فجورًا، أفتى الحاخام الأكبر السابق مردخاي إلياهو بأن سرقة محاصيل الزيتون من الفلسطينيين أمر مشروع، قائلًا: “بما أن الأرض هي ميراث لشعب إسرائيل، فإن الزراعة على هذه الأرض من قبل الأجانب هي زراعة على أرض لا تعود لهم ، إذا وضع شخص شجرة في أرضي، فإن الشجرة والثمرة التي تُثمرها تعودان لي.”
هذا الخطاب اللاهوتي الاستيطاني لا يقف عند حدود الممتلكات، بل يمتد إلى تبرير القتل المباشر ، ففي عام 1983، حين حوكم مستوطنون لقتلهم طفلة فلسطينية تبلغ من العمر 11 عاماً في نابلس، استشهد الحاخام الرئيسي للطائفة السفاردية خلال جلسة الدفاع بنصوص من التلمود تقول إن “قتل الطفل الفلسطيني جائز إذا اعتقد القاتل أنه سيكبر ليصبح عدواً”! هذا التبرير الديني لجريمة قتل طفلة بريئة لم يُقابل بأي استنكار رسمي، بل تم استيعابه في بنية التطرف الديني الإسرائيلي كجزء من العقيدة وليس شذوذًا عنها.
إن هذه الفتاوى تُعيد استحضار رمزية “العماليق” التي استخدمها العهد القديم لوصف أعداء بني إسرائيل الذين وجب إبادتهم ، واليوم يستخدم الحاخامات المتطرفون هذا المصطلح لوصف الفلسطينيين، مما يُحوّل القتل إلى طقس ديني، والطرد إلى واجب مقدّس ، فالمطلوب ليس فقط الاستيطان في أرض الفلسطينيين، بل محوهم كجماعة ووجود، وقتل الأمل فيهم كشعب له تاريخ وهوية وحق في الحياة.
ومن صفحات النصوص القديمة إلى نار الواقع اليومي، نجد أن هذه الفتاوى تتحول إلى بنادق مشتعلة، ومشاهد مرعبة يتكرر فيها مشهد الشهيد محمد أبو خضير، الذي أُحرق حيًا على يد مستوطنين متطرفين عام 2014 ، إلى مشهد حرق عائلة دوابشة في دوما ، وما تزال النيران ذاتها تلاحق قرى مثل ترمسعيا وسنجل والمزرعة الشرقية، حيث يشن المستوطنون هجمات شبه يومية، تحت غطاء الجيش الإسرائيلي، وبإلهام من فتاوى عنصرية تُقدّس القتل وتسلب الإنسان إنسانيته.
خلف كل هذا، يقف وزراء مثل إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش ويسرائيل كاتس، يوفّرون الغطاء السياسي والأمني لهذه العصابات، ويدفعون نحو تحويل الضفة الغربية إلى ساحة حرب أهلية دينية، يكون فيها الفلسطيني أعزلًا، والمستوطن مُسلّحًا بالعقيدة والسلاح والدولة.
لكن وسط كل هذا الظلام، ينهض سؤال لا بد من مواجهته: أين السلطة الفلسطينية؟ أين أجهزتها الأمنية التي تمتلئ المدن بها، بينما تُترك القرى عرضة لليل الحرق والدم؟ إن هذا الغياب لم يعد عجزًا فقط، بل يبدو كأنه انسحاب إرادي من دور وطني كان يجب أن يكون في المقدمة ، فلا بيانات الشجب تكفي، ولا اجتماعات التنسيق تمنح المواطن أمنًا، ولا بقاء السلطة في مربع الانتظار يُبرر أمام الأمهات اللواتي يدفنّ أبناءهن تحت تهديد “الفتاوى الإلهية”.
في ليل الضفة، حين تنام المدن خلف أسوار الأمن الوهمي، تبقى القرى وحيدة في مواجهة كوابيس المستوطنين، يطرقون أبوابها بالنار، ويكتبون على جدرانها الموت بالعبرية، ثم يمضون محميين بقانون الاحتلال ومباركة الحاخامات ، في ترمسعيا، يختنق الفجر بدخان الحرق، وفي سنجل تذوب الطفولة في لهب الحقد، وفي المزرعة الشرقية يتكرر المشهد: أرواح تُسلب، وحقول تُسرق، ومآذن تصرخ بلا مجيب.
إن القرى الفلسطينية لا تحتاج إلى كلمات عزاء، بل إلى حماية حقيقية، وسلطات تؤمن بأن الدفاع عن الأرض والناس هو جوهر الشرعية، لا التنسيق مع قاتلهم ، فإذا لم تكن السلطة قادرة على منع إرهاب المستوطنين، فعلى الأقل ألا تكون غطاءً لعجز يشرعن البقاء في موقع المتفرج، فيما الوطن يُغتصب كل يوم على مرأى ومسمع من الجميع.
ربما يستطيع المستوطنون أن يحرقوا بيتًا، أو يقتلعوا زيتونة، أو يقتلوا طفلًا، لكنهم لن يقدروا على قتل الذاكرة ، او محو التاريخ، ستظل الحجارة التي تُسرق من جدران البيوت شاهدة، وسيظل تراب القرى يعرف أصحابه، وسيبقى هذا الشعب رغم الوجع، واقفًا، لأن من يعيش على الأرض لا يخاف من نار، ولا ينهزم من فتاوى كراهية… بل ينتظر عدالة لا بد أن تأتي، ولو طال ليلها.