اطلس:سيطرت النظرية الديمقراطية على أروقة البحث العلمي وكليات العلوم السياسية والاجتماعية في كل أنحاء العالم لعقود طويلة، وألهمت هذه النظرية كافة الدارسين والباحثين في دول العالم الثالث من أجل وصول شعوبها الى قيم الحرية والمشاركة والمساواة التي تضمنتها هذه النظرية الغربية، والتي امتد نفوذها وهيمنتها لكي تصبح معياراً من معايير السياسة الخارجية للدول الغربية في تعاطيها مع حالة حقوق الانسان في دول العالم الثالث. وقد كنا جميعاً نحن الباحثين في حقل السياسة المقارنة نعتبرها الى وقت قريب نظرية تستطيع وصف واقع النظم السياسية وتفسيرها والتنبؤ بمسارها! وبالفعل، كانت هذه النظرية مهيمنة على عقولنا وكتاباتنا الى أن بدأت الأمور تتضح أكثر وأكثر، حتى خلصنا الى استنتاج مهم وهو أن صمود النظرية الديمقراطية منذ عهد جان جاك روسو وحتى الأن لم يكن بسبب قوة هذه النظرية وعدالتها، وانما بسبب قوة الدول الغربية وانتصارها على غالبية أعدائها على مدى القرون الثلاثة الماضية.
في الواقع، لقد جمعت العديد من الشواهد حول الممارسات المشوهة للديمقراطيات الغربية بما فيها اسرائيل، والتي للأسف تضنف غربياً على أنها من الدول الديمقراطية وفقاً لمؤشر الديمقراطية العالمي !، ومن هذه الممارسات:
أولاً: تولي السلطة في العديد من الدول الغربية في العقد الأخير من الألفية الثانية الأحزاب الشعبوية سواء كانت في أوروبا أو الولايات المتحدة أو اسرائيل، بحيث أصبحت هذه الحكومات ذات الطابع المحافظ والقريب من الصهيو- مسيحية تطالب بالدعم اللامحدود لاسرائيل، أو تطالب بتهجير اللاجئين وعدم استقبالهم كما هو الحال في بريطانيا والولايات المتحدة، أو تدعوا الى تقييد الحرية الدينية في اللباس او غيره كما هو الحال في فرنسا وبلجيكا، او حتى الدعوة الى قتل العرب وتهجيرهم كما هو الحال في إسرائيل.
ثانياً: قيام العديد من الأنظمة الديمقراطية الغربية بحجة معاداة السامية بمصادرة حق التعبير عن النفس، أو/ وتقييد إبداء الرأي السياسي كما حدث مع طلبة الجامعات الأمريكية المطالبين بسحب استثمارات جامعاتهم من اسرائيل، حيث تم اعتقال بعضهم وترحيل البعض الأخر وفرض غرامات عليهم وطردهم من الجامعات. والأنكي من ذلك، قطع المنح الحكومية عن الجامعات التي تتهمها الادارة الامريكية بالتهاون في منع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، حيث قامت هذه الادارة بقطع تمويل جامعة هارفرد وغيرها بأكثر من 500 مليون دولار.
ثالثاً: قيام بعض الحكومات الغربية الأوروبية الديمقراطية بفرض غرامة قد تصل الى 700 يورو على من يرتدي الكوفية الفلسطينية !، وكأن لبس الكوفية عمل إرهابي، أو كأنه فعل معادي للسامية، وللأسف فإن مناهضة لبس الكوفية ومنع التظاهرات المناصرة للقضية الفلسطينية والمطالبة بوقف الابادة الجماعية التي تمارسها إسرائيل ضد الشعب الفلسطيني كلها ممارسات تنتقص من حرية التعبير وتدخل في سياق التحيز لإسرائيل.
رابعاً: ازدواجية المعايير داخلياً فيما يتعلق بالتعامل مع القضية الفلسطينية، حيث نجد الديمقراطيات الغربية تمنع التظاهرات المؤيدة للفلسطينيين، أو تقيدها وتمنع رفع العلم الفلسطيني وارتداء الكوفية بينما تسمح لمؤيدي الحركة لصهيونية بالتظاهر ورفع العلم الاسرائيلي. أضف الى ذلك، تعتبر هذه الديمقراطيات أن التظاهرات المؤيدة للفلسطييين تهديداً لأمن الاسرائيليين أو المناصرين لهم، بما يؤدي الى محاكمهتم بتهمة العنصرية وبث خطاب الكراهية، وفي بعض الحالات توجيه الاتهام لهم بالتهديد المباشر أو الاعتداء.
خامساً: لم تشكل حتى الأن أي لجنة برلمانية أو حكومية لا في اسرائيل ولا في الديقراطيات الغربية الداعمة لاسرائيل، بحيث تكون مهمة هذه اللجنة التحقق من جرائم الابادة الجماعية ضد الشعب الفلسطيني برغم أن عدد الشهداء والجرحي الفلسطينيين منذ السابع من أكتوبر تجاوز 200 ألف فلسطيني. واللافت للنظر أن هذه الديمقراطيات الغربية تشكل لجان رقابة وتحقيق على كل فعل تقريباً يؤدي الى القتل أو التهديد او تعريض مواطنيها للخطر، بينما لم يسترعي انتباهها جرائم الابادة في غزة لتشكيل مثل هذه اللجان من أجل تصويب سياسات حكوماتها تجاه القضية الفلسطينية.
سادساً: إهمال إعمال القانون الدولي في سياساتها الخارجية والداخلية فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية، برغم من اعتبار دساتير هذه الديمقراطيات مبادئ القانون الدولي قواعد ناظمة لدساتيرها وربما تعلوا على دساتيرها في الكثير من الحالات. وفي الوقت الذي نجد فيه قرار محكمة العدل الدولية في الدعوة التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد اسرائيل، إضافة الى العديد من القرارات الدولية الأممية التي تجرم اسرائيل وتمنع الاستيطان واستمرار الاحتلال، فان هذه الديمقراطيات الغربية لا تبذل أي جهد يذكر في تطبيق هذه القواعد والقرارت الدولية الناظمة، والتي إن تم تطبيقها من قبل المنظومة الدولية فانها ستؤدي الى احترام حالة حقوق الانسان وضمان الاستقرار والأمن في العالم أجمع.
سابعاً: التاثير على العملية الانتخابية سلباً عندما يتعلق الأمر بمناصر القضية الفلسطيينية، تماماً كما حدث مع ” ممداني” المرشح المتنافس في انتخابات عمدة نيويورك، وهو مسلم أمريكي من أصول مهاجرة أسيوية، حيث اتهمه ترامب علناً على شاشات التلفاز بالشيوعية مهدداً أنه في حال انتخابه سيقطع التمويل عن بلدية نيويورك! مع ملاحظة أن هذه المرشح انتقد سياسات ترامب ووعد باعتقال نتنياهو اذا زار نيويورك.
إن ما سبق يعتبر جزءً يسيراً من العديد من الشواهد التي تشير بشكل واضح الى وهن وهشاشة الديمقراطيات الغربية، لاسيما اذا ما تعارضت مصالحها السياسية مع مبادئ الحريات والمشاركة. بل إننا نجد أن الحريات تتعطل اذا ما ارتبطت بالقضية الفلسطينية، وهذه النتيجة تؤكد لنا عدم صلاحية النظرية الديمقراطية في التعامل مع قضايا إشكالية داخل المجتمعات الغربية مثل الفلسطنة واسرائيل وقضايا الهجرة والدين وغيرها. ولهذا يجب البحث عن نظريات جديدة قادرة على المواءمة بين مبادئ العدالة والحرية وبين مصالح الدولة دون أي تحيز ثقافي أو سياسي.