اطلس: كتب اسماعيل جمعه الريماوي: في غزة، لا يموت الناس فقط تحت القصف، بل يموتون بصمت، جوعًا، أمام أنظار العالم، وأمام مؤسسات تدّعي الإنسانية، لكنها تمارس أقسى أشكال الإذلال، لم تعد المجاعة حالة عرضية أو نتيجة جانبية لحرب طويلة، بل صارت أداة حرب في حد ذاتها، يُدار بها الصراع وتُفرض بها الإرادة ، الغذاء الذي يُفترض أن يكون خط الدفاع الأول عن الحياة، تحوّل إلى سلاح استراتيجي بيد الاحتلال الإسرائيلي، يُستخدم لا للقضاء على المقاومة فقط، بل لكسر الروح الجمعية للشعب الفلسطيني.
تحول الطعام إلى طُعم، والطحين إلى مصيدة، والمساعدات إلى فخاخ محكمة، آلاف العائلات تسير مسافات طويلة بين الركام، تتخطى الجثث، وتتسلل من تحت نيران القصف، فقط للحصول على كيس دقيق أو علبة فاصوليا، لكنها تُقابل بالرصاص ، مجازر ترتكب تحت لافتة “التوزيع”، وموتٌ يُبرر باسم “الفوضى” و”الأمن”، من ثلاثون الى خمسون فلسطينيًا يقتلوا في اليوم الواحد خلال محاولتهم الوصول إلى مساعدات، اضافة الى جرحى بالمئات ، في مشهد يعيد للأذهان مآسي الأحياء اليهودية في أوروبا، حين كانت النازية تقنن الغذاء وتحوّله إلى وسيلة إبادة.
الفارق الوحيد، أن الضحايا اليوم ليسوا في أربعينات القرن الماضي، بل في 2025، والعالم يشاهد، ويُموّل، ويتواطأ،
وان احفادهم هم من يمارسون التجويع ضد شعبنا اخر،
مؤسسة “غزة الإنسانية”، التي تديرها الولايات المتحدة وتدعي أنها الجهة المكلفة بالإغاثة، ليست سوى غطاء إداري لمشروع تجويع منظم، فبدلًا من إيصال الغذاء إلى السكان، تدير المؤسسة عملية انتقائية لإخضاع السكان، وفق جداول توزيع تهدف إلى خلق انقسام طبقي في الجوع ذاته، يحصل البعض على 1750 سعرة حرارية يوميًا، بينما يحتاج الإنسان في حالة الطوارئ إلى 2100 على الأقل، ومع ذلك، فإن معظم سكان غزة لا يحصلون على ربع هذا الرقم، ويعيش بعضهم، كما تقول أوكسفام، على أقل من 250 سعرة في اليوم – أقل مما تحتويه علبة فول.
لكن الخطر لا يكمن فقط في الأرقام، بل في الاستراتيجية التي تقف خلفها، هذه المجاعة ليست فوضى بل خطة ، كما فعلت ألمانيا النازية عندما وضعت خطة تجويع السوفييت واليهود، تفعل إسرائيل اليوم مع غزة: خطة تجويع لتدمير الإرادة، لتفكيك النسيج الاجتماعي، ولدفع الناس إلى الاستسلام أو الفناء. وما فعله النازيون من توزيع “الحصص العنصرية” يتكرر اليوم، حيث يُخصص الغذاء لجزء من السكان ويُترك الباقي للموت، في تكرار بشع لتجارب حي وارسو الذي حوصر فيه اليهود.
لكن ما يميز الحالة الإسرائيلية عن غيرها من أنظمة القمع، أن استخدام التجويع ليس مجرد نتيجة عرضية للحصار أو وسيلة ضغط ثانوية، بل هو نهج قائم بذاته، مركزي و متعمد.
معظم الأنظمة الفاشية في التاريخ الحديث – من إيطاليا موسوليني إلى الأرجنتين في ظل الحكم العسكري – مارست القمع، العنف، والإخفاء القسري، لكنها لم تجعل من التجويع سياسة إبادة كما فعلت ألمانيا النازية، التي حولت معسكرات الاعتقال إلى مختبرات للجوع المقنن، لتدمير الإنسان نفسيًا وجسديًا قبل موته.
والآن، تعيد إسرائيل تطبيق ذات النموذج – ليس في معسكر ناءٍ، بل في قطاع يسكنه أكثر من مليوني إنسان، فالمجاعة التي تفرضها على غزة لا تشبه حصارًا تقليديًا، بل تشبه بنية هندسية للجوع، تماثل ما حدث في معسكرات الاعتقال النازية، حيث كان الخبز يُقنن لقتل الروح قبل الجسد.
الأكثر إيلامًا، أن هذا الحصار الغذائي يُرافقه خطاب وقح من أعلى مستويات القيادة الإسرائيلية ، وزير المالية الإسرائيلي بيزاليل سموتريتش صرّح بوضوح: “لا ينبغي أن تدخل حبة قمح واحدة إلى غزة”، بينما تسمح القوات الإسرائيلية لعصابات مسلحة بنهب المساعدات، وتُعاقب من يحاول حمايتها، كما حصل حين قُتل 12 شخصًا من حراس المساعدات في ضربات جوية إسرائيلية، لا لشيء سوى لأنهم حاولوا أن يمنعوا السرقة.
وفي الغرب، يُبرَّر كل شيء لمصلحة إسرائيل، منظمة إسرائيلية في بريطانيا قالت بلا خجل إن “الحرب تساعد على تخفيض البدانة في غزة”، إنها ليست حربًا على الإرهاب، ولا ردًا على هجوم، إنها حرب على فكرة البقاء، على الفقراء، على الأطفال، على الأمهات اللواتي يجمعن الطحين من التراب لإطعام صغارهن.
حتى مدير “مؤسسة غزة الإنسانية” استقال، محذرًا من أن ما يجري لا ينسجم مع أي معيار إنساني، لكنه غادر بصمت، كما يُغادر الضمير مقعده أمام شاشات الأخبار.
ما يجري في غزة اليوم هو إعدام جماعي ببطء، تجويع لا يهدف فقط إلى القتل، بل إلى سحق الكرامة، وسلب الإنسان من إنسانيته، والعالم كله شريك في هذه الجريمة – من يموّل، ومن يصمت، ومن يبرر.
ليس هناك شيء عفوي في المجاعة، إنها مشروع، قرار، هندسة موت جماعي ترتدي قناع “المساعدة الإنسانية”، وكل من يمرر الطحين من بوابة ويطلق الرصاص من أخرى، هو ليس شريكًا في الإغاثة، بل في القتل، لقد أصبح الجوع لغة الاحتلال الجديدة، والسؤال اليوم ليس: “من يموت جوعًا؟” بل “كم بقي من الوقت قبل أن يتحول الجوع إلى إبادة معلنة؟”.