الطناجر تُقرَع في صمت… والأمهات لا يُهزمن

كتب خالد فحل: لا تُشبه الأم الفلسطينية سواها، فهي لا تخوض معركتها في ميادين السياسة أو ساحات الحرب فقط، بل في قلب البيت، وتحديدًا في المطبخ… حيث تتحوّل الطناجر الفارغة إلى خنادق، والملاعق إلى أدوات صمود، والوجبات القليلة إلى انتصارات يومية.

بين الضفة الغربية وقطاع غزة، يختلف المشهد السياسي وتتنوع أشكال المعاناة، لكن تبقى الأم هي القاسم المشترك في الوجع والمواجهة. كلاهما، الأم في الضفة والأم في غزة، تخوض معركتها مع الحياة في مطبخٍ بات ساحة نضال يومي لا يقل صلابة عن جبهات القتال.

في الضفة الغربية، تعيش الأم على وقع رواتب مقطوعة أو منقوصة. تقف أمام ثلاجة شبه فارغة، تتنقل بين الأسواق باحثة عن الأرخص، تُبدع في تحويل القليل إلى ما يُشبه الكثير، وتبتكر أطباقًا من الفتات، وتُضيف إليها من نكهة الحب ما يكفي لتُشبع أرواح أبنائها قبل أجسادهم.
تُطهو الألم على نار هادئة، وتُقدّم الطعام مغموسًا بالصبر، وتُخفي حرقتها بابتسامة صامتة.

أما في غزة، فالمطبخ ساحة صمود تُحاصرها الحرب. الأم تطهو تحت أصوات القصف، توزّع الرغيف الوحيد بعدالة الأمومة، وتُخفي خوفها بين حكايات ما قبل النوم. وإن نفد الغاز استعانت بالحطب، وإن شحّ الطحين استبدلته بطحن العدس والمعكرونة، تستمر في إعداد الطعام رغم الصعوبات.
الكهرباء متقطعة، الماء مالح، والحياة شحيحة، لكنها لا تنهار. تُشعل النار على موقدٍ من إرادة، وتُطهو الحياة رغم كلّ شيء. حين تُطعم أبناءها، تُطعمهم معنى البقاء، لا مجرد الطعام.

في كل بيت فلسطيني، تُولد خنساء جديدة. لا تكتفي بالبكاء على الشهيد، بل تُنجب غيره. تُربّي في الظلال أبطالًا، وتُخبّئ في قلوبهم قوةً لا تعرفها جيوش. في كل زقاق، وفي كل مطبخ، تخوض الأم الفلسطينية معركة صامتة لا يراها الإعلام، ولا تُوثّقها الكاميرات، لكنها أصدق المعارك وأنقاها.

لكن ما لا يراه العالم، أن الأم الفلسطينية لا تطبخ فقط لتُطعم، بل لتُبقي الحياة مشتعلة في بيت تهدده الحرب، وفي وطنٍ تُحاصره الأسوار. إنها لا تُعدّ وجبة، بل تُصوغ صمودًا. تُحمل كل لقمة قصة صبر وانتصار، وتُتبّلها بكرامة لا تذوب. هي التي تمزج العجين بالدمع، وتخبز على نار الانتظار، ثم تُقدّم الحياة في صحن صغير دون أن تشتكي.

ليست أمًّا عادية…
هي التي تحمل في يديها مفتاح الحياة، فتجعل من كل زاوية في بيتها مقاومة، ومن كل وجبة رسالة أمل لا تنطفئ.

فمن بين الدخان والركام، تنهض كل يوم، تفتح النافذة، وتنفض عن صدرها غبار الأمس، وتقول:
“اليوم أيضًا، لن يهزمنا الجوع… ولن تنتصر الحرب علينا.”

عن Atlas

شاهد أيضاً

اسماعيل الريماوي يكتب : كيف تُدار حرب غزة بين مناورات نتنياهو وخداع ترمب؟

اطلس:بينما تتهاوى كل المسارات السياسية المعلنة لوقف حرب الإبادة في قطاع غزة، تبرز الوعود الأمريكية …