الطيبة…. بين اعتداءات المستوطنين وحرب الوجود المسيحي في فلسطين

كتب اسماعيل الريماوي: في الشمال الشرقي من مدينة رام الله، تتربّع بلدة الطيبة الفلسطينية كواحة من التاريخ والهوية، تطلّ من جهة الشرق على غور الأردن والبحر الميت، وتحمل على كتفيها إرثاً يمتدّ من الكنعانيين إلى العهد البيزنطي مروراً بالصليبي والعثماني، كانت تُعرف باسم “عفرة” في الحقبة الكنعانية، أي “الغزالة”، ثم أصبحت “أفريما” في العهد الروماني، و”أفرون” في العصور الوسطى، قبل أن يسميها صلاح الدين الأيوبي بـ”الطيبة” لما رآه من طيبة أهلها ونخوتهم.

تحتضن البلدة معالم أثرية ودينية فريدة، من بينها قلعة “البوبرية” الصليبية، ومعاصر زيتون وعنب، وخرب قديمة، وكنيسة الخضر البيزنطية، ودير مار أفرام، ومغارة يُعتقد أن المسيح اختبأ فيها سبعة أيام هرباً من بطش الرومان واليهود، إنها طيبة الفلسطينيين، وطيبة التاريخ، وطيبة المسيح، التي تسكنها روح المكان والزمان معاً.
لكن هذه البلدة، التي شكلت لقرون رمزاً للتنوّع الديني والتاريخ الحي، باتت اليوم في مرمى نيران المستوطنين حرفياً.
ففي السابع من تموز / يوليو 2025، أقدم مستوطنون متطرفون على إحراق أراضٍ مجاورة لكنيسة القديس جاورجيوس البيزنطية ومقبرة تاريخية، ضمن أربع هجمات تعرّضت لها الطيبة خلال أسبوعٍ واحد، لم يكن ذلك عملاً تخريبياً عابراً، بل جزءاً من سياسة إحلالية واضحة تسعى لاجتثاث ما تبقى من الوجود المسيحي الفلسطيني في قلب الضفة الغربية.
فمنذ بدء الحرب الإسرائيلية على غزة، تصاعد العنف الاستيطاني في الضفة بشكل ممنهج، وكأن تلك الحرب وفّرت غطاءً لمستوطني التلال كي يوسّعوا مسرح عملياتهم نحو ما تبقّى من القرى الآمنة.
إلا أن الطيبة، بما تمثّله من رمزية دينية وحضارية، لم تسلمين ذلك، فالاعتداء على الكنيسة والمقبرة ليس مجرد اعتداء على الحجر، بل على الذاكرة، إنه استهداف للهُوية، وللتاريخ، ولمجتمعٍ فلسطيني مسيحي لم يزل صامداً في أرضه رغم كل شيء.
في زيارة تضامنية أعقبت الهجمات، عبّر بطاركة ورؤساء الكنائس في القدس عن خشيتهم من أن تتحول هذه الاعتداءات إلى حملة تطهير ديني منظم، هدفها تفريغ الأرض من سكّانها الأصليين، وقال أحد البطاركة في مؤتمر صحفي من الطيبة إن هذه الأفعال “تجبر البعض على التفكير في مغادرة الأرض”، وهي عبارة تختزل المأساة ببساطة مروّعة: حين تتحوّل دور العبادة والمقدسات إلى أهداف، يصبح الوجود نفسه مُهدداً.
بعض المنظمات الحقوقية، اكدت أن ما يحدث ليس عشوائياً، بل جزء من استراتيجية طمس ممنهجة، إذ استولى المستوطنون على ربع أراضي الطيبة الزراعية، لا سيما حقول الزيتون، التي تشكل شريان حياة للبلدة وسكانها، وهذه الهجمات المزدوجة، على الأرض والمقدسات، تدفع الأهالي إلى معادلة قاتلة: إما الرحيل أو البقاء تحت نار الخوف اليومي.
ولا تقتصر خطورة الأمر على الجانب الديني فحسب، بل تمتد لتطال البنية الوطنية والمجتمعية لفلسطين، فالمسيحيون الفلسطينيون ليسوا مجرد أقلية دينية، بل هم جزء أصيل من النسيج التاريخي والروحي لشعب قاوم معاً، مسلمين ومسيحيين، كل موجات الاحتلال. واستهدافهم هو استهداف لفكرة فلسطين الجامعة، التي تتسع لكل أبنائها، وتقاوم الانقسام الطائفي الذي تسعى إسرائيل إلى زرعه وتغذيته.
لقد أصبحت إسرائيل تمارس تفتيت فلسطين على مستويين: الأول جغرافي، عبر الجدران والحواجز والمصادرة، والثاني ديمغرافي وثقافي، عبر محو الوجود المسيحي وسرقة ذاكرته ومقدساته، وما جرى ويجري في الطيبة هو تكرار لما جرى في القدس وبيت لحم واللد والرملة، حيث التهجير الناعم والخشن، وحيث الكنائس تصبح أهدافاً او نقطة اشتباك مع الذاكرة.
في ظل هذا الصمت الدولي، وتواطؤ كثير من الأطراف، بل وانشغال بعض القوى الفلسطينية بالصراعات الداخلية، يجد المستوطنون في الطيبة مسرحاً مفتوحاً لتنفيذ مشروعهم. لا مساءلة، لا محاسبة، لا رادع، وتبقى الكنائس تقاوم وحدها، ويظل الزيتون شاهداً على المجازر المتكررة ضد الذاكرة والمكان والإنسان.
في الطيبة، لا تستهدف الكنائس وحدها، بل يستهدف معها التاريخ  والذاكرة، وهمس الرهبان في أقبية الحجر، وصدى المسيح وهو يهرب من بطش الجلادين، وهنا لا تُستهدف طائفة بعينها، بل تُستهدف الحكاية كلها، وتُستهدف فلسطين بأناجيلها وقرآنها، بصلبانها ومآذنها، بأشجار زيتونها التي ظلّت واقفة رغم الحريق

عن Atlas

شاهد أيضاً

“اتحاد الجرحى” يرفض تأخر الرواتب ويطالب المالية بالإسراع في الصرف

اطلس: عبر اتحاد جرحى فلسطين عن رفضه لاستمرار تأخير صرف رواتب الجرحى، مطالبا وزارة المالية بالإسراع …