اطلس: أيار 2021، حشد جيش الاحتلال 200 ألف جندي عند الحدود مع لبنان، تحت عنوان مناورة «غير مسبوقة». هي «مركبات النار» والاسم مستمد من العهد القديم. فمصطلح «عربات النار» أو «مركبات النار»، ذُكر على لسان النبي إلياهو في التوراة (الملوك الثاني 2:11). وتستهدف المناورة تنفيذ خطة رئيس الأركان السابق أفيف كوخافي، المتمثلة بالتوغل البري بعد القتل السريع والفتاك وحرب متعددة الجبهات.
حينها استنفر حزب الله تحسباً لأي غدر، في مقابل اشتعال الوضع في القدس المحتلة بعد أحداث الشيخ جراح والإعلان عن تنظيم «مسيرة الأعلام». وعليه، وجَّه قائد أركان كتائب القسام محمد الضيف، (4/5/2021) تحذيراً نهائياً وأخيراً إلى الاحتلال «إذا لم يتوقف عن اقتحام المسجد الأقصى»، في ظلّ حديث كان يدور عن تجهيز المستوطنين لاقتحامه بالآلاف، مشيراً إلى قضية الشيخ جراح محذراً كذلك من تهجيرهم. وبعد أقل من أسبوع (يوم الإثنين 10/5/2021 الموافق 28 رمضان 1442هـ) وفي تمام الساعة 4:40 عصراً، مَنح المتحدث الرسمي باسم كتائب القسام أبو عبيدة، العدو «مهلةً حتى الساعة السادسة لسحب جنوده ومغتصبيه من المسجد الأقصى المبارك وحيّ الشيخ جراح، والإفراج عن كلّ المعتقلين خلال هَبّة القدس الأخيرة، وإلّا فقد أعذر من أنذر». وفي تمام الساعة السادسة، قصفت كتائب القسام بستة صواريخ مدينة القدس المحتلة، لتبدأ معها معركة «سيف القدس/ حارس الأسوار» وتستمر 11 يوماً وبالتالي يؤجل الاحتلال مناورات «مركبات النار» عاماً كاملاً.
يكشف كتاب «السياسي الأخير: داخل البيت الأبيض في عهد جو بايدن والنضال من أجل مستقبل أميركا» للصحافي فرانكلين فوير، الصادر في خريف 2023، أن بايدن وجه كبار مستشاريه إلى «خنق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بالحب» من أجل ضمان وقف إطلاق النار بسرعة أثناء «سيف القدس». وتحت عنوان «عانق بيبي بشدة»، أوضح الكاتب أن «بايدن تعلم من تجاربه السابقة مع نتنياهو أن انتقاده لن يؤدي إلا إلى دفع رئيس الوزراء بعيداً»، مستذكراً إحدى المكالمات الهاتفية بين الطرفين بعد أن قصفت إسرائيل مبنى مكوناً من 12 طابقاً في غزة يضم مكاتب وكالة «أسوشيتد برس» الأميركية وقناة «الجزيرة» القطرية. وقال إنه «بدلاً من مهاجمة نتنياهو بسبب الغارة الجوية، طلب بايدن من رئيس الوزراء شرح إستراتيجية إسرائيل في الحرب»، مشيراً إلى أن «بايدن أمضى أكثر من ساعة في إجراء تحقيقه بروح الصداقة، لكنه كان يحاول أيضاً كشف أوجه القصور في تفكير بيبي». وذكر الكاتب أن «نتنياهو أثناء محاولته شرح استراتيجيته، اعترف عن غير قصد بأنه ليس لديه هدف محدد من الغارات الجوية المستمرة… لكن بايدن بقي صامتاً»، مبيناً أن «وزير الأمن آنذاك بيني غانتس أبلغ المسؤولين الأميركيين في وقت لاحق خلال الحرب، أن الجيش الإسرائيلي لم تعد لديه أهداف في غزة». وأضاف: «عند هذه النقطة، بدأ بايدن بالتعبير عن مخاوفه بصورة أكثر وضوحاً لنتنياهو». وكشف أن «بايدن قال خلال مكالمتهما الهاتفية الرابعة في 19 أيار بعد إصرار نتنياهو على تمديد الحرب: يا رجل، خرجنا عن المسار هنا… لقد انتهى الأمر. ووافق نتنياهو على وقف إطلاق النار بعد يومين». لم يُعرف تماماً بماذا يختلف المسار الأميركي عن الإسرائيلي، لكن تتابع الأحداث يشير حينها إلى أن واشنطن كانت تسعى إلى إشعال حرب أوكرانيا ومحاولة احتواء إيران، والتركيز على الجبهة الشمالية بدلاً من غزة.
صحيح أن صبيحة إعلان المقاومة الحرب على الاحتلال كرد فعل عما يحصل في القدس بعد اقتحام آلاف من الشرطة الإسرائيلية المسجد الأقصى، وجرح أكثر من 331 مدنياً فلسطينياً، وما يجري في حي الشيخ جراح حيث باتت قرابة 25 عائلة فلسطينية تقطن في الحي تواجه خطراً حقيقياً بالتشريد، بعد قرارات متتالية لمحاكم الاحتلال تقضي بطردهم من منازلهم لتسليمها لمصلحة الجمعيات الاستيطانية الإسرائيلية، إلا أن قرار المقاومة كان مستغرباً لجهة أنّ مساراً مهماً بدأ يتشكل حينها من المواجهة الشعبية في القدس وحيفا واللد وعموم المناطق المشتركة بين السكان الأصليين والمستعمرين إضافة إلى الضفة الغربية مع دعم عالمي، إعلامياً وشعبياً. هذا المسار توقف ليحل مكانه مسار الغرفة المشتركة لفصائل المقاومة الفلسطينية ولاحقاً غرفة عمليات محور المقاومة. حينها، فدت غزة الجبهة الشمالية وبدل العدوان الوشيك على لبنان فاجأت صواريخ المقاومة الفلسطينية العدو مستبقة أي خطوة متوقعة من الاحتلال ضد حزب الله.
■ ■ ■
بعد عام، يستأنف جيش الاحتلال مناورات «مركبات النار»، وهي استكمال لمناورات عام 2017، حيث خاض جيش الاحتلال مناورات تخللتها تدريبات في الأراضي القبرصية استعداداً لعدوان على لبنان، وشاركت فيها وحدات من الجيش القبرصي لعبت دور مقاتلي حزب الله. اختيار التضاريس القبرصية لأنها تشبه طبوغرافية جنوب لبنان، فسلاح المشاة تدرّب على تكتيكات جديدة أطلق عليها «من الملاقط إلى المنجل»، فيما المناورة الشاملة شملت كل قطاعات الجيش والشرطة والجبهة الداخلية. وحينها خاطب أفيف كوخافي المشاركين بالمناورة أن «الجيش يتعامل مع مجموعة واسعة من الساحات والتهديدات، من السكّين حتى النووي، من جنين حتى أصفهان. الجيش يعمل في كل الساحات لجمع المعلومات، لإحباط التهديدات والاستعداد للحرب ضد أي ساحة أو مخطط متعدّد الساحات».
■ ■ ■
تبعت «مركبات النار» سلسلة مناورات متسارعة أخرى. في تموز 2022، أجرى جيش الاحتلال مناورات عسكرية جوية أُطلق عليها «درع البرق»، بالتعاون مع سلاح الجو الإيطالي، في قاعدة «نفاطيم» شمال فلسطين المحتلة، وفي أيلول 2022، مناورة برية لسلاح المدرعات بالقرب من الحدود الشمالية ومناورة أخرى في خليج حيفا. وفي كانون الأول 2022، مناورة مشتركة مع سلاح الجو الفرنسي. أما في الشهر الأول من 2023، فنفذ جيش الاحتلال مناورة ضخمة مع الولايات المتحدة الأميركية (جونيبر اوك/ سنديان البازلت) بمشاركة 1500 جندي إسرائيلي و6400 جندي أميركي، باستخدام 142 طائرة مقاتلة (100 منها أميركية، و42 إسرائيلية من بينها طائرات إنقاذ، وأخرى لإعادة تزويد الوقود في الجو، وطائرات من طراز (B-52 وغواصات وسفن حربية بأنواع مختلفة من مجموعة حاملات الطائرات «جورج دبليو بوش»). أمّا مناورة سلاح الجو مع نظيره القبرصي في أيار 2023، وأطلق عليها اسم «اللكمة الساحقة»، فعلى نحو مباغت في يوم المناورة الثاني، شنّت طائرات حربية غارات مركزة ومتزامنة على قطاع غزة، أسفرت عن اغتيال 3 قادة بارزين في سرايا القدس مع عائلاتهم (جهاد شاكر الغنام أمين سر المجلس العسكري، والشهيد خليل صلاح البهتيني عضو المجلس العسكري وقائد المنطقة الشمالية، والشهيد طارق عز الدين أحد قادة العمل العسكري بسرايا القدس في الضفة الغربية). وتلاحقت المناورات إلى ما قبل «طوفان الأقصى»، وشملت المناطق الشمالية وسهل الحولة والجولان وشاركت فيها أذرع الجيش كافة، وشملت تدريبات تحاكي إدارة عمليات الجيش من قبل هيئة الأركان العامة. وبعد هجوم 7 تشرين الأول من غزة، ظهر كوخافي ليقول: «يمكن للناس أن يسألوا، لماذا لم تفعلوا شيئاً حيال غزة؟ نحن جهزنا الجيش لمواجهة إيران. يجب أن أعترف أننا لم نعتبر قطاع غزة وحماس تهديداً وجودياً، وكانت الاستراتيجية على الأرض هي التركيز على إيران والساحة الشمالية».
■ ■ ■
لم تكن هذه المناورات المكلفة مالياً، سوى مقدمة لعدوان يُحضر على لبنان وإيران. وتأخر ذلك لأسباب لها علاقة بالداخل الإسرائيلي، ولا سيما أن الحكومات لم تصمد كثيراً في السنوات الأخيرة والانتخابات المبكرة كانت تسبق أي قرارات مصيرية إضافة إلى اكتساب حلفاء جدد عبر الاتفاقات الإبراهيمية. وكانت المؤشرات لعدوان وشيك على لبنان تظهر كل صيف ويعنون الصحافيون والمحللون بالكلمات المفتاحية: «صيف ساخن». والتمهيد لما يشهده لبنان الآن بدأ فعلياً بـ«شيطنة حزب الله» وتحميله مسؤولية انهيار الوضع الاقتصادي وربط ذلك بسلاحه وفشل تظاهرات 2019، وتفجير مرفأ بيروت 2020.
■ ■ ■
حالياً، ينفّذ جيش الاحتلال ما تدرّب عليه، إلا أن غزة أنهكته إلى حد ما والنار تلتهم المركبات والجنود منذ أكثر من عام. ولن يوقف الاحتلال عدوانه الشامل على أطراف المحور إلا بوعود أميركية بضم الضفة الغربية أو بقرار كبير بالعدوان على إيران. ومع أن تراكم «إيلام العدو» في الميدان يمكن أن ينتج هدنة، لكن وقف الحرب يحتاج إلى عوامل غير متوقعة في الداخل الإسرائيلي أو في العالم. والأهم أن نهاية الحرب في أي توقيت وسيناريو هي بداية اشتعال النار في المركبة الحقيقية، أي دولة «إسرائيل»، كفكرة ومؤسسات ومجتمع.