لقد جاءت عمليات قوى المعارضة السورية بعد هدوء دام لخمس سنوات، في ظل علاقات متداخلة لكافة الأطراف المتدخلة في الملف السوري ، وضمن ظروف دولية وإقليمية متوترة إثر التصعيد الروسي والغربي غير المسبوق في أوكرانيا، والتصعيد الإسرائيلي ضد إيران وأذرع المقاومة في المنطقة، وعزم نتنياهو على تقويض النفوذ الإيراني في سوريا ولبنان وتهديده لبشار الأسد لتسهيله نقل العتاد العسكري لحزب الله.
ومن الواضح أن تركيا وفصائل المعارضة السورية المسلحة وحتى روسيا التي ترى في النفوذ الإيراني على النظام السوري مزاحمًا لنفوذها، رغم تحفظها على مساحة وأهداف هجوم المعارضة على مواقع النظام السوري وداعميه، استغلوا جميعهم أجندة أميركا و”إسرائيل” لتحجيم إيران وإضعاف أذرعها وبخاصة في سوريا لإحداث تغيير في ميزان القوة والواقع الجيوسياسي في الشمال السوري، على نحو يقوض النفوذ الإيراني ويُنهك حزب الله. ولذلك جاءت العملية عقب اتفاق الهدنة بين حزب الله و”إسرائيل”، وعزم نتنياهو على ضرب مواقع الحزب والقوات الإيرانية في سوريا. وجاءت أيضًا في ظل التصعيد المنتظر بين إيران و”إسرائيل” في المرحلة المقبلة وبعد الاستنزاف الذي حل بحزب الله في معركته مع الكيان الصهيوني، والذي من شأنه أن يُضعف قدرة الحزب وإيران في مواجهة خصومهم، وبخاصة “إسرائيل” التي تستعد لتوسيع نشاطها العسكري في سوريا، حيث نقلت يديعوت أحرونوت عن الجيش: “هدفنا إضعاف حزب الله ونستعد لمواجهة إيران وأذرعها بما فيها المليشيات في سوريا”. وفي هذا السياق تأتي عملية “صد العدوان” للتحوط من احتمال محاولة القوى التابعة لإيران وحزب الله إعادة التموضع في مناطق بعيدة عن حدود الكيان الغاصب مثل أرياف حلب وإدلب ودير الزور.
أما الموقف الروسي وإن بدا ملتبسًا؛ إذ لم يكن يُتوقع أن يتأخر رده بعد الحزم الذي أظهره في التعاطي مع المعارضة السورية في السابق، فإنه يشي بالتوافق المحدود مع أردوغان على العملية في حدود الضغط على بشار الأسد؛ لقبول الصلح مع تركيا وتمكين أردوغان من معالجة تضخم المهاجرين السوريين على حدود بلاده، وإنشاء منطقة عازلة لإعادة ما يمكن إعادته من المهاجرين السوريين في تركيا إلى ديارهم لإسكات المعارضة التركية، التي تتخذ من ملف المهاجرين السوريين ورقة ضغط في صراعها على السلطة مع أردوغان. كما يهدف بوتين إلى إرسال رسالة إلى إيران وتركيا والنظام السوري بعجزهم عن تحقيق مصالحهم من دونه.
وأما أردوغان فإنه يتوسل من دعمه للمعارضة السورية والذي يُلمح في قول الخارجية التركية: “إن هجمات النظام السوري الأخيرة على إدلب وصلت لمستوى يضر بتنفيذ ما تم الاتفاق عليه في أستانا”، إلى تعزيز أوراق قوته في مواجهة المشروع الأميركي للجيب الكردي.
بيد أن موقف روسيا بالتوافق الضمني مع تركيا والذي ظهر في تباطؤ الاستجابة الروسية مع التطور الخطير على الأرض، وأدى إلى انهيار القوات السورية وتقدم المعارضة سريعًا، وظهر كذلك في تأخر الموقف الرسمي الروسي لليوم الثالث للهجوم، مما دعا بشار الأسد ليهرع إلى بوتين لاستجلاء الموقف وطلب المساعدة، كل ذلك لا يعني إطلاق يد أردوغان والمعارضة السورية لتهديد المصالح الروسية، مستغلين انشغال بوتين بالتصعيد في أوكرانيا ومسابقته للزمن لتحرير كورسك قبل عودة ترمب للسلطة، إذ لن يسمح بوتين أن يمتد هجوم المعارضة إلى مناطق خفض التصعيد في ريف حماة الشمالي ولا يُستبعد أن يرفع مستوى التدخل لوقف تقدم المعارضة لما له من تهديد للوجود الروسي في حميميم، ولما له من تأثير على أوراقه في الضغط على أردوغان في ظل الامتعاض الروسي من الدعم التركي لأوكرانيا والذي جاء على لسان وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف مؤخرًا.
ولا يخفى أن الدعم الغربي للمعارضة السورية يهدف إلى إشعال الجبهة السورية لتشتيت القدرات الروسية في ظل التعبئة الغربية لأوكرانيا، وتمكينها من دخول المفاوضات المقبلة مع روسيا من موقع قوة. حيث صرح وزير الخارجية الأميركي بلينكن أن إدارة جوزيف بايدن ستبذل قصارى جهدها لضمان حصول أوكرانيا على الأموال اللازمة لمواصلة الصراع مع روسيا في عام 2025. بينما دعا حلف شمال الأطلسي إلى تزويد أوكرانيا بصواريخ متوسطة المدى.
وأما القوى التي تدعمها إيران في سوريا بمن فيهم قوات حزب الله اللبناني فإنها مستهدفة بشكل مباشر، وقد قتل العميد كيومرث بورهاشمي، أحد كبار مستشاري إيران العسكريين في حلب أثناء الاشتباك. حيث أعلنت المعارضة على لسان قائد حركة أحرار الشام عامر الشيخ أن عملية ردع العدوان مستمرة حتى تحقيق أهدافها المتمثلة بوقف اعتداءات النظام، وإبعاد خطر القوى المدعومة من إيران عن مناطق سيطرة المعارضة، وتهيئة الظروف المناسبة لعودة الناس إلى أرضهم بأمان. ولهذا اعتبر المتحدث باسم الخارجية الإيرانية إسماعيل بقائي الهجوم جزءًا من “خطة أميركية وإسرائيلية لزعزعة أمن المنطقة”. وندد بما اعتبره انتهاكًا لاتفاقية خفض التصعيد شمالي سوريا. وهو ما ينطوي على تعريض إيراني بالموقف الروسي من الهجوم.
وأما الولايات المتحدة ومعها “إسرائيل” فإنها معنية بتقويض الوجود الإيراني في سوريا، وتحصين مواقع تمركزها وسيطرتها على منابع النفط والثروات الزراعية التي تغذي قوات سوريا الديمقراطية “قسد” وتمثل ورقة ضغط على النظام. ولا يُستبعد أن تدفع أميركا الأكراد لمواجهة المعارضة السورية المسلحة لإيجاد توازن بين الأطراف المتنازعة حتى لا يحصل انهيار للنظام السوري بعد إضعاف السند الإيراني لنظام بشار، ولتبرير مواصلة دعمها وتسليحها للفصائل الكردية واستعمالهم لضرب التنظيمات “الجهادية” بعد استنفاد مبرر وجودهم، ولتأسيس أرضية تفاهم بين النظام والأكراد حيال الحكم الذاتي الكردي عبر مساندة الأكراد لقوات النظام في التصدي لهجوم المعارضة. ومن جهة أخرى تستثمر أميركا في هذا الهجوم وتداعياته لمشاغلة روسيا وإرباكها بتوسيع الجبهات عليها، وتحريك الملف السوري والوصول إلى إعادة هيكلة النظام السوري بعد إضعاف بشار، وتشكيل دستور جديد وتطبيق الحل السياسي وفقًا للقرار الأممي 2254، وإخراج سوريا من التحالف مع إيران وروسيا إلى التطبيع والتحالف العربي الإسرائيلي بمعية لبنان. وقد مهدت أميركا لفك ارتباط سوريا مع إيران وضمها إلى الحاضنة العربية عبر المبعوثين السعوديين، وعبر القمم العربية وعودة بعض السفراء العرب والأوروبيين.
وأما “إسرائيل” فلا شك أنها تستغل تضارب المصالح الدولية والإقليمية في سوريا لتحقيق أهدافها ومحاصرة إيران وأذرعها، بعد أن نجحت بتحييد حزب الله في لبنان وعزله عن الصراع ليواجه خصومه في الداخل اللبناني. ومن المحتمل جدًا أن يوقف نتنياهو إطلاق النار في غزة في إطار صفقة تبادل دون وقف الحرب وقفًا كاملًا على غرار ما فعله مع حزب الله، وقد بدأت تظهر المؤشرات على ذلك، ولا سيما وأن ترمب يريد وقف القتال واستئناف مسار التطبيع العربي الإسرائيلي في المرحلة المقبلة، وهو ما يمنح نتنياهو هامشًا من التحرك العسكري ضد إيران وأذرعها في المنطقة.
شاهد أيضاً
اللواء المتقاعد أحمد عيسى يكتب: مصير وحدة الساحات بعد اتفاق وقف اطلاق النار بين إسرائيل وحزب الله
اطلس: أعلنت إسرائيل يوم يوم الثلاثاء الماضي الموافق 26/11/2024 موافقتها على مقترح وقف إطلاق النار مع …