بين الابتكار وحكمة التوظيف .. الذكاء الاصطناعي يعمق المفارقات !كتب: د. طلال شهوان

ما يشهده العالم من نقاشات بخصوص “DeepSeek” ومقارنته بـِ “ChatGPT” وغيره من برمجيات الذكاء الاصطناعي التوليدي يدلل على صراع هائل يدور تحت السطح على مستوى الدول والشركات والقطاعات الكبرى حول السبق في امتلاك مفاتيح هذه التكنولوجيا الفارقة.

كما هو معلوم من الانثروبولوجيا، شكل اكتشاف النار محطة مفصلية في رحلة الانسان مع الحياة، ومن ثم تعلم الانسان تدجين الحيوان والنبات، ليستقر بعد ذلك ويبدع سلسلة من الابتكارات الفارقة، من الكتابة إلى الطباعة إلى الآلة البخارية إلى الطاقة النووية، ومنها إلى الاختراعات والابتكارات المعاصرة كالتكنولوجيا الحيوية وتكنولوجيا النانو والتكنولوجيات الرقمية المتنوعة، مثل الواقع الافتراضي والواقع المعزز والذكاء الاصطناعي.

لفترة ممتدة خلال مسيرة التاريخ البشري، كانت الاكتشافات والاختراعات وليدة الحاجة والضرورة من أجل تلبية الاحتياجات الأساسية والاحتماء من بطش الطبيعة وعناصرها الخارجة عن السيطرة. ومع تطور التكنولوجيا وتوسع نطاق تطبيقاتها تنامى تأثير مآرب التحكم والتوسع وجني الأرباح كقوى دافعة للابتكار. حالياً، مع التكنولوجيا الرقمية والذكاء الاصطناعي، يتعاظم تأثير هذه الدوافع بشكل هائل، وتشير تقديرات الخبراء إلى ثلاثة آفاق، على الأقل، يمكن أن تنبري كمكامن للقلق وتستدعي بالتالي التأمل والتفكير؛ أولها يرتبط بالعلاقة بين الواقع الافتراضي والواقع الموضوعي، وثانيها يرتبط بالتنافس والصراع بين مراكز القوة البشرية وعمالقة رأس المال، فيما يختص الثالث بحدود العلاقة بين النوع البشري ككل وبين الذكاء الاصطناعي.

العلاقة بين الواقع الافتراضي والواقع الموضوعي

في الأفق الأول، يزداد بشكل مطرد التشابك والتكامل بين الواقع الافتراضي (Virtual Reality) والواقع الموضوعي (Objective Reality) لدرجة أنه أصبح هناك ما يسمى الواقع المختلط (Mixed Reality). هذا ينقل التكنولوجيا الرقمية من مجرد وسيلة تلبي احتياجات محددة في الواقع الموضوعي إلى بيئة معاشة يمكن أن تؤثر ايجابياً، أو تشوه وتزيف، بل وأحياناً تقود وتوجه الواقع الموضوعي. على مستوى الفرد، من شأن ذلك أن يثير التباساً بخصوص الهوية البيولوجية-الرقمية، وطبيعة الادراك المادي-الخيالي، وحدود الواقع الحقيقي-الافتراضي. كما أن تأثيره يمكن أن ينعكس ايجاباً وسلباً على حياة الأفراد بتفاصيلها المتعددة، في الترفيه والتعليم والتدريب والتوظيف والعمل والتشخيص والعلاج. ويمكن أن يتشابك التأثير بين الأفراد ليمتد إلى المجتمعات والدول، بحيث يتم توظيف الواقع الافتراضي كأداة لتأطير وهندسة الواقع الحقيقي المعاش ضمن تصورات وممارسات محددة، بحيث يتأتى بشكل يسير التحكم والتوجيه، وحتى التضليل والتلاعب، كما هو الحال مع عديد الأمثلة في وسائل التواصل الاجتماعي واسعة الاستخدام.

التنافس والصراع بين مراكز القوة البشرية وعمالقة رأس المال

أما بالنسبة للأفق الثاني فهو لا يتوقف عند الفارق في امتلاك أدوات التكنولوجيا بين جهات مختلفة، بل في انعكاس ذلك على الحياة بكافة جوانبها. وبالتالي، من المتوقع أن يكون حجم الهوة بين من يمتلكون التكنولوجيا ذات الصلة وبين من لا يمتلكونها غير مسبوق بشكل لا يدانيه مثيل عبر التاريخ البشري على مستوى المؤسسات والمجتمعات والدول، مما سيترك أثره بشكل متزايد على التعليم والتوظيف والاقتصاد والاجتماع والصحة والبيئة، وعلى موازين القوى والجغرافيا السياسية. فالمؤسسات التعليمية التي تمتلك التكنولوجيا الرقمية اللازمة ستتمكن من تقديم ممارسات وخبرات تعليمية غنية وحديثة، وستتطور بحثياً ومعرفياً بوتيرة متسارعة مقارنة بغيرها. وسيكون أسهل على الشركات الكبرى التي توظف الذكاء الاصطناعي جني عوائد أكبر عبر تطوير التسويق والانتاج والتوزيع، هذا بالترافق مع زيادة البطالة إثر تغير المواصفات والمهارات المطلوبة وظيفياً. أما على صعيد الدول، فسيزداد النفوذ والتوسع الجيوسياسي للدول القوية تقنياً في مقابل من سواها، استناداً لامكانياتها العسكرية والأمنية والرقابية التي توظف الذكاء الاصطناعي داخلياً وخارجياً. وعلى صعيد المجتمعات البشرية فإن الفجوة الرقمية من شأنها أن تخلف مزيداً من الفجوات الاجتماعية والحضرية والثقافية والمناخية، مؤدية لظهور العديد من أنماط المفارقات التي تحتاج لبحث وتحليل معمق للتكنولوجيا كموضوع للدراسة، وانعكاساتها على الأفراد سلوكياً ونفسياً واجتماعياً، في ظل اختلال مؤسف للعدالة في التطور التكنولوجي بين المجتمعات والدول.

حدود العلاقة بين النوع البشري وبين الذكاء الاصطناعي

وفيما يتعلق بالأفق الثالث فهناك ارتياب مقلق بشأن مستقبل الجنس البشري ككل، حيث أن حمى التسابق فيما بين الشركات والدول، تحت ضغط الأهداف التنافسية والنفعية، تزيد من احتمالية حدوث خطأ في تقدير حجم الخطر الذي يمكن أن تشكله الآلة، والتي يتزايد ذكاؤها التوليدي بوتيرة موغلة في التسارع، قد لا تكون بعد مرحلة معينة قابلة للسيطرة أو الاحتواء. وفي هذا السياق تكثر التكهنات بخصوص قدرة الذكاء الاصطناعي على تطوير وعي مستقل، يمتلك درجة من الذكاء تفوق قدرات البشر بأضعاف كثيرة. كما يرد في ويكيبيديا، يوصف الوعي بأنه “أكثر الجوانب أُلفة وأكثرها غموضاً في حياتنا”، إذ لا يزال عصياً على تعريف محدد وموحد. ولكن بالنظر لكون الوعي يشتمل على أشكال متعددة مفاهيمياً، فإن الخبراء يرون أن الذكاء الاصطناعي يمتلك حالياً مستوى متقدماً من الوعي الوظيفي يمكنه من التعلم من التجارب وتحليل المعلومات واتخاذ بعض القرارات، ولكنه لا يزال بعيداً عن تشكيل وعي مستقل نظراً لافتقاره لأشكال أساسية من الوعي، كالوعي الذاتي، والوعي المعياري الأخلاقي، والوعي الحدسي، وغيره. وهناك، في المجمل، انقسام بين من يعتقدون بقدرة الذكاء الاصطناعي على بلورة وعي ناشئ مع التطورات القادمة في الحوسبة الكمومية والشبكات العصبية المتقدمة، وبين من يرى أن الوعي المستقل يتعدى الخوازميات والقدرات الحسابية المتقدمة، وينشأ عن الكيمياء الحيوية للدماغ. وعند سؤال “ChatGPT” و “DeepSeek” عن إمكانية تطوير الذكاء الاصطناعي لوعي مستقل لم ينف أي منهما ذلك بشكل قاطع، وكان الجواب المستخلص من الأول أن ذلك يبقى احتمالاً غير مرجح، فيما يمكن تلخيص إجابة الثاني بأن الأمر لا يزال غير مؤكد !

في الختام، لا يبدو من قبيل المبالغة القول أن البشرية تلج إلى عصر لا يشبهه أي من عصور تاريخها المكتوب، بفرصه وتحدياته، وأن انفلات التنافس المدفوع بالمصالح وضعف التعاون والتنسيق سيترك آثاراً بالغة الخطورة على قطاعات واسعة من المجتمعات والمؤسسات والأفراد. وفي زحمة الانشغال بالتنافس المحموم، يبقى السؤال الأهم والأكثر إثارة للجدل والتوجس؛ كيف سيكون شكل المستقبل البشري إذا طور الذكاء الاصطناعي، بقدراته الهائلة، وعياً مستقلاً تتضارب مصالحه مع مصالح البشر؟!

عن Atlas

شاهد أيضاً

فواز عطية يكتب: وعــــد آرثــــر بلفور وأوامــــر دونالــــد ترامـــــب في حِدِّهما الحَدُ بين التَلفِ والكذبِ

ما بين العامين 1917 و2025، مضى من الوقت بين التاريخين ما يزيد على قرن من …