إن الكتابة عن سيد المقاومة السيد حسن نصرالله في يوم تشييعه، يختلط فيها الذاتي، بالنسبة إلى الكاتب، مع الموضوعي، ولا سيما إذا كان من محبّي السيد حسن، وتعايش معه على مدى عشرات السنين، مع الإعجاب والتقدير والتعلّم.
ولعل واحدة من مزايا السيد حسن، أن غيابه حضور دائم، على المستويين الخاص والعام. وعلى المستوى السياسي والفكري والنظري، واليومي الميداني. فالسيد منذ فارقنا لا يغيب، ولا سيما، على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي، وأحرار العالم. وهذه حالة مترسّخة بالنسبة، إلى كل من عرفه وعاش زمانه.
فالكتابة عن السيد حسن تعاند نفسها في استخدام اللغة عن غائب حاضر، وتشييع حيّ ناظر. وذلك بالرغم من واقع هذا الغياب الصاعق، الذي لا يصدّق، وهو صدقٌ، يوجب عليك تكذيبه، بالرغم من تصدّع قلبك وروحك ونفسك. ويوجب عليك أن تعترف بأنك تكذب على نفسك… إنه غياب وحضور في آن معاً، ولحظة واحدة.
الإشكال الثاني، أن شخصية السيد حسن ومزاياه، وما ترجمه في حياته الجهادية والعملية، والفكرية، تحتاج إلى أن تُسطّر في مجلّد، وليس في مقالة، تفرض عليك، أن تنتقي القليل من كثير، وتلقي ضوءاً على بُعدٍ، وهنالك أبعاد أخرى، يحرجك ألّا تتناولها، بالقدر نفسه، من حيث الأهمية. ولكن مع ذلك، لا بد من الاختيار والانتقاء، كما تقتضيه المقالة، والعذر والأمل في العشرات الذين كتبوا، وسيكتبون بما يفي حقّ السيد حسن نصرالله علينا، وهو وفاءٌ يظلُّ مقصّراً.
البُعد الذي ستختاره هذه المقالة، بالرغم مما فيه من تقصير، يتناول الخط السياسي الذي قاده السيد حسن خلال مرحلة ما بعد «طوفان الأقصى» في 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، حتى استشهاده الجلل في 27 أيلول/سبتمبر 2024. وأيّ جلل. وأما السبب فهو ما ناله، ذلك الخط السياسي من تخطيء له، مباشر أو غير مباشر، وقام بذلك من قادته أحقاد وعداوات، وأمراض نفسية. وإن كان بعضه صدر من أصدقاء ومحبين، عن حسن نيّة.
ومن هنا فالمقالة، ستقدّم شهادة تعتبر أن السيد حسن قاد المقاومة خلال تلك الفترة، قيادة صحيحة، إلى أبعد الحدود. ولم يُخِلَّ بها من خلل، غير ما حدث، من خارج الحرب، ومن خارج كل تقدير، وهو ما كان مخترقاً، ومزروعاً من جانب المخابرات الصهيونية والدولية، قبل السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023. وبقي خافياً في لبنان والعالم، طوال الحرب على المقاومة والشعب في قطاع غزة. ولم يظهر إلا بعد اثني عشرة شهراً، وهي الفترة التي تغطي موضوع تناول الخط السياسي، الذي قاد به المقاومة، سيدها. وذلك من الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، حتى السابع والعشرين من أيلول/سبتمبر 2024.
إذا صح هذا التقدير، بالفصل بين الاختراق الأمني الذي جسّدته الاغتيالات، وتفجير البيجرات، وأجهزة الاتصال، ولا سيما الوصول إلى المخابئ الأساسية، والتحكم بقصفها، خاصة، المتعلقة بالسيد حسن نصرالله والسيد هاشم صفي الدين، وقادة «قوة الرضوان»، من جهة، وما يسمّى «الخدعة في الحرب» أو موضوعة الحرب خدعة. وذلك لأن الاختراق الأمني المذكور، لا علاقة له بما عُرِفَ بالخدعة، أو الخداع في الحروب. فهو مجال قائم بذاته. فمثلاً، الاغتيال بقتل قائد أو رئيس دولة، بتدمير طائرته المدنية، وهي في الجو، لا يدخل في موضوعة الخدعة، ولا حتى بالحرب. بل ثمة إجماع، على أنه عمل إجرامي، مدان بحدّ ذاته. ويُعتبر غدراً وإرهاباً، مخالفاً للقانون الدولي، والأعراف العسكرية.
من هنا فإن التفجيرات والاغتيالات التي حدثت، قبل أن يعلن نتنياهو الحرب على حزب الله، كانت نتاج عمل أمني سابق، قائم بذاته. وكان لها أكبر الأثر، أو كانت العامل الحاسم، في الخسائر التي لحقت بحزب الله، عسكرياً وسياسياً. فحزب الله، لم يدخل الحرب بكامل قوته وقيادته ويُهزم، حتى يُعتبر، قد خسر الحرب.
هذه الإشكالية، وهي المتعلقة بالاختراق الأمني، المشار إليه، حاسمة في تقدير الموقف، وتقويم قيادة السيد نصرالله، للمرحلة الممتدة من 8 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى 27 أيلول/سبتمبر 2024. وذلك لسببين، أولاً كونها غير محسوبة أو مرئية، من جانب قيادة حزب الله، ولا من جانب أي محلل لميزان القوى، لتلك المرحلة. هذا ولا يمكن لأحد أن يدخلها في حساب ميزان القوى، على القيادة العسكرية الصهيونية، أو من شارك من مخابرات، في تلك المكيدة الأمنية الغادرة، الشديدة السريّة.
ولهذا فإن تقويم قيادة السيد حسن نصرالله، في إدارة الصراع خلال تلك المرحلة، يسمح باعتبارها إدارة صحيحة، وناجحة ودقيقة جداً. لأن كل حساباته، من جهة خارجة عن ذلك الخرق الأمني الخطير، الذي قلب معادلة ميزان القوى بين حزب الله والكيان الصهيوني، رأساً على عقب. فعلى سبيل المثال، كانت القوى العسكرية لحزب الله، تقدّر من قِبَل الكيان الصهيوني، بامتلاك ما لا يقل عن مائة وخمسين، أو مائتي ألف صاروخ، بما فيها البالستية وغيرها، فضلاً عن عشرات الآلاف من المقاتلين، ومن قدرات أمنية وقتالية، مثل المُسيّرات والرادارات والأنفاق، الأمر الذي سمح للسيد حسن في تقويمه، أو خطبه، ولحزب الله في تقديراته: أن من غير المتوقع، أن يشهد العدو حرباً، بسبب عدم قدرته على الانتصار فيها، أو بسبب ما يمكن أن يناله، من خسائر في حالة الاشتباك الصاروخي: فهذان السببان كانا يفسّران عدم وقوع الحرب، خلال السنوات الخمس السابقة، مثلاً.
وإنه لأمرٌ سمح أيضاً للسيد حسن أن يعتبر قوّة الجيش الصهيوني، كخيوط العنكبوت. وكان هذا شبيهاً، بتقدير للقائد الصيني ماو تسي تونغ في خمسينيات القرن الماضي، عندما اعتبر أميركا نمراً من ورق. وهي التي تمتلك، مئات القنابل النووية مثلاً. فبعض السذّج في قراءة تصريح السيد حسن حول خيوط العنكبوت، أو تصريح ماو تسي تونغ حول النمر الورقي، اعتبر أنها استهتار بقوّة العدو، فيما المقصود منهما، ليس المعنى الحرفي التبسيطي، وإنما المقصود البُعد الاستراتيجي، والتاريخي. وذلك من دون استهتار بقوّة العدّو العسكرية، والدليل هو الجهد المتواصل والهائل في التسلّح، وحشد الإمكانات العسكرية، وتأجيل المواجهة، إلى أطول مدّة ممكنة، لتحقيق استعدادات عسكرية كبرى.
وهنا أيضاً طرح نقد آخر، من أصدقاء طالبوا بأن يعلن حزب الله، الحرب فوراً في الثامن من تشرين الأول/أكتوبر 2023، إذ لاحت فرصة هزيمة الجيش الصهيوني وتحرير فلسطين. وذلك في الوقت الذي كانت حسابات السيد حسن الدقيقة، لقوّة العدّو، لم تصل بعد إلى إعلان تلك الحرب، والانتصار فيها.
ولهذا كان قرار السيد حسن، صائباً، حين أخذ قرار المساندة، وبحساب دقيق جداً، لقواعد الاشتباك، ما يؤكد أنه لم يكن مستهتراً بقوّة العدّو، عندما تحدّث عن خيوط العنكبوت.، بل كان شديد الحذر، في الآن نفسه، بإدارة التصعيد، وفقاً لتطورات الحرب في قطاع غزة، وعلى مستوى المساندة، كما على مستوى توسّعها، ليتدخّل المحور كله.
فمن يدقّق في كيفية إدارة السيد حسن للمساندة (المشاركة) العملية في الحرب، ضمن سقف محدّد، يساعد المقاومة في قطاع غزة، ويشغل العدّو نسبياً، يتأكد من أن قيادة على أعلى مستوى للحرب، عبّرت عنها قيادة السيد حسن، للمرحلة الممتدة من 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، إلى 27 أيلول/سبتمبر 2024.
ومن هنا يمكن القول، لولا الألغام الأمنية، التي كانت مزروعة داخل المواقع الآمنة في حزب الله، والتي شلّتها الاختراقات، والتفجيرات والاغتيالات خلال شهر أيلول/سبتمبر 2024، لكان حزب الله، قد جنى ثمار انتصار عسكري، وفقاً لميزان القوى المُعطى، لا يقلّ أهمية، إن لم يزد، عن الانتصار العسكري الذي حقّقته المقاومة في قطاع غزة، كما تجلى في اتفاق وقف إطلاق النار في الخامس عشر من كانون الثاني/يناير 2025 في غزة.
أما البُعد الذي يحتاج إلى الكثير من التدقيق والتحقيق والتحليل والنقد، فهو المتعلق بإشكالية الاختراق في مختلف أبعادها. فهذه الإشكالية التي عطّلت، فعل السياسات الصحيحة، وأبطلت موازين القوى المعطاة، والمُشاهَدة والمحسوبة، وتدخلت في الحرب العسكرية، وما هي من الحرب العسكرية، وإنما هي من مجال الأمن والغدر، وما يستتبعه من أساليب الغش وشراء الذمم، واستخدام الأساليب الدنيئة، للوصول إليها. وقد زادت التكنولوجيا تلك، الطين بِلّة، وأكثر.
وبالمناسبة، إن هذا الاختراق بأبعاده المختلفة، وتنفيذه صُمّم خصيصاً للحرب ضدّ حزب الله، وليست له علاقة مباشرة بسياسات حزب الله الخاصة، بوحدة الساحات، أو بفصل الساحتين، وذلك بدليل أسبقيتها، بسنوات وسنوات. وقد كشفت ما كان العدّو الصهيوني، يبيّته لحزب الله، وكيف كان يقدّر خطورة السيد حسن نصرالله، وحزبه عليه.
وبكلمة، إن كل من يقوّم تلك المرحلة، وعلى التحديد، بالنسبة إلى حزب الله وقيادة السيد حسن نصرالله، عليه أن يركّز على إشكالية الاختراق، المتعدّد الأوجه، حيث استطاع العدو، بصورة غادرة، أن يقحمه في الحرب، ربما، بسنوات قبل عملية طوفان الأقصى، وتداعياتها، وصولاً إلى يوم 27 أيلول/سبتمبر 2024، الجارح الساكن في أعماق كل قلبٍ عربي وإسلامي وحرّ، إزاء هذا الاستشهاد العظيم.
المصدر: الاخبار اللبنانية