م. شوكت الراميني يكتب : في المأزق الاستراتيجي الاسرائيلي

اطلس:أحدثت حرب ‘طوفان الأقصى’ في السابع من أكتوبر 2023م، وما تلاها من اتساع عسكري إقليمي مقاوم، تحولات جذرية متعددة الاتجاهات في معادلة الصراع في الشرق الأوسط. إذ لم تعد المواجهة محصورة بين إسرائيل والفلسطينيين كما كان يُخطط لهذا دائمًا، بل سرعان ما شملت تدخلات مباشرة وغير مباشرة من قوى كبرى في المنطقة. فتدخل حزب الله بصواريخه الدقيقة وطيرانه المسيَّر، وتنفيذه لعمليات حربية لوجستية منظمة، ودفعه لعملية تهجير واسعة وتدميرٍ ممنهجٍ لا يُستهان به في مناطق الشمال، إضافة إلى تكبيده للقوات الإسرائيلية خسائر بشرية مربكة. ويُضاف إلى هذا التدخل هجمات الحوثيين البحرية التي أثرت على الملاحة المتوجهة إلى إسرائيل عبر البحر الأحمرمن الناحية الرئيسية، مع ضربات مركزة وجَّهوها إلى مركز إسرائيل ومينائها في إيلات، عبر طيرانهم المسيَّر وصواريخهم الفرط صوتية. ولا يمكن التقليل من مشاركة الفصائل العراقية وبنشاطٍ بسلسلة من الضربات النوعية بالطائرات المسيرة تكاملية الطابع والمدى الجغرافي، وجاهزية تلك الفصائل لإحداث تغيير نوعي في طبيعة المعركة مع تطور وتصاعد الصراع، فضلاً عن الضربات الإيرانية الاستراتيجية غير المسبوقة عبر أسراب الطائرات والصواريخ الدقيقة الموجهة، وقدراتها على اختراق المنظومات الدفاعية الإسرائيلية متعددة الطبقات. كل هذا أظهر أن ‘محور المقاومة’ قادر على التصعيد المنسق عبر جبهات متعددة، ويملك ناصية التكنولوجيا العسكرية الموجهة والعابرة للجغرافيا، وقدرات الرصد والتحليل والمواكبة المعلوماتية. مما أنشأ واقعًا جديدًا قلَّص من قدرة إسرائيل على احتواء خصومها بمفردها، وكشف حدود قوتها الرادعة، وأجبرها على مواجهة حقيقة أن المنطقة لم تعد ساحة يمكنها السيطرة عليها منفردة رغم كل الدعم الأمريكي والغربي غير المسبوق. وأن هذه الحرب لم تعد مجرد امتداد تقليدي للصراع، بل منصة تحول استراتيجية أُطلقت منها فعليًا رسائل نارية واضحة إلى إسرائيل، والولايات المتحدة، والغرب، وعموم العرب، مفادها أن موازين القوى لم تعد تخضع لنفس القواعد التي سادت لعقود، وأن محور المقاومة يمتلك قدرات عابرة للحدود يمكنها تهديد الأمن الإسرائيلي من عدة جهات، وله قدرة على التصعيد الإقليمي المنسق. ومشاركته في الحرب، رغم الطابع الإسنادي وتداعياتها، لن تكون مؤقتة أو محدودة أو أحادية الشكل والأسلوب، بل ستمتد تأثيراتها على المدى الطويل. والأهم في تلك الرسائل أن لدى المنطقة عمومًا من القدرات، في حال تفعيلها، ما هو قادر على حسم الصراع جذريًا، وعلى العالم وإسرائيل أن تتذكرا أن قوس الصراع متعدد الحدود والأعماق وله بُعد تاريخي وجغرافي وقيمي وديني ولا يمكن القفز عنه ببساطة لمجرد لحظة طائشة في التفكير الاستعماري ولا لانتصارات مؤقتة مغرية.

تغيير قواعد اللعبة الإقليمية:
لطالما اعتمدت إسرائيل في استراتيجيتها الأمنية على تفوقها العسكري المطلق، المدعوم من الولايات المتحدة والغرب، مع قدرتها على توجيه ضربات استباقية دون مواجهة ردود فعل إقليمية واسعة النطاق. إلا أن هذه الحرب أثبتت أن ميزان القوى لم يعد كما كان، وأن التفاعل العسكري بين إسرائيل و’شبكات المقاومة اللامركزية’ خلق ديناميكية جديدة تميزت بتعدد الجبهات وتكامل الأدوار، كما أشرنا. فهذه التطورات شكلت تحولًا نوعيًا في أوجه الصراع الإقليمي، وكشفت عن هشاشة التوازنات التي كانت إسرائيل تعتقد أنها تسيطر عليها، وقدَّمت دليلًا على أن المنطقة لم تعد تخضع للمعادلات القديمة التي اعتمدتها تل أبيب وحلفاؤها. وأظهرت أن قدرة إسرائيل على ردع خصومها أصبحت موضع شك، وأن اعتمادها على التفوق الجوي والتكنولوجي لم يمنع الفصائل من استمرار المنازلة الأسطورية ومتابعة استهدافها بصواريخ ومسيَّرات دقيقة قادرة على تجاوز كل أنظمة الدفاع الاستراتيجي الإسرائيلي، ومواصلة الطريق رغم التشويش على أنظمة الملاحة الدولية. وعمليًا، تم في هذه الحرب تحجيم القدرات البرية الإسرائيلية إلى حدود بعيدة. كما ظهر أن رد الفعل الإسرائيلي العنيف، والمنفلت من عقاله، لم يحقق الأهداف المرجوة في ردع هذه الفصائل، بل جعل الصراع أكثر تعقيدًا وخطورة على المستويين السياسي والعسكري وتداعياتهما الإقليمية والدولية. ويجب التنويه هنا، حتى لا تتشوش الصورة، أن الهدنة المؤقتة على جبهات عدة وبعض التفاهمات تُقرأ كمقدمة لتوازنات استراتيجية، خاصة إذا نجحت الضغوط الدولية، بما فيها توجهات إدارة ترامب المحتملة، في فرض استقرار نسبي لحين إعلان مبادرة جدية اتجاه المنطقة، أو انفلات الأمور مرة أخرى. وبغض النظر عن النوايا الإسرائيلية اليمينية المتجهة نحو التفجير والتأزيم النمطي، فإن سقوط نظام الأسد، رغم أنه يُمثل خسارة لخصوم إسرائيل، لا يشكل انتصارًا استراتيجيًا يمكن الاعتماد عليه في إعادة بناء موازين القوى بعد ‘طوفان الأقصى’. فالقوى الإقليمية المقاومة لإسرائيل لم تنتهِ، بل تعيد تنظيم نفسها وتُغيّر درجات التركيز وطبيعة المهمات على حلقاتها، وتتعلم من التجربة المخاضة. وإن الديناميات الإقليمية أصبحت أكثر تعقيدًا من أن تُحسم بانهيار طرف واحد. وإن الفوضى المُخلَّقة في سوريا، والتي تلعب إسرائيل دورًا مفجرًا رئيسيًا لها، والموجهة نحو التقسيم والحرب الأهلية المتشعبة، (إن لم يعمل اللاعبون الكبار على إنجاز تفاهمات وضبطها)، قد تُنتج معادلات وقوى وبرامج جديدة لا يمكن التنبؤ بأبعادها.
تحدي الهيمنة الأمريكية:
شكّلت المشاركة الإقليمية في حرب ‘طوفان الأقصى’ تحديًا مباشرًا للهيمنة الأمريكية في المنطقة. إذ إن دعم إيران لحلفائها في لبنان واليمن والعراق أظهر قدرتها على تحدي النفوذ الأمريكي وتقويض محاولات واشنطن للحفاظ على الاستقرار الإقليمي لصالحها. وهذا دفع الولايات المتحدة إلى إرسال حاملات الطائرات إلى المنطقة لتعزيز منظومة الردع، إلا أن هذا الردع الزائد -مثلاً- لم يغير من قدرة اليمن على التحكم في سلاسل التزويد البحرية، والتذكير بقدرة المنطقة على السيطرة على الممرات المائية والبرية الفوق استراتيجية للعالم، ولم يفلح أيضًا في تحقيق غلبة عسكرية للجانب الإسرائيلي عمومًا، بل زاد من تعقيد المعادلة الاستراتيجية، وقرّبها من انفجار إقليمي شامل يشكل خطرًا على المصالح الأمريكية والعالمية في المنطقة، في ظل أزمات اقتصادية وسياسية تواجهها الولايات المتحدة داخليًا. وأتت الهدنة التي أنجزتها الولايات المتحدة بضغط من نظام ترامب الجديد كتعبير أولي عن توجهات النظام الترامبي في المنطقة وكيفية قراءته للأحداث وللمستقبل الجيوسياسي.
إسرائيل من رصيد استراتيجي إلى عبء سياسي وأمني:
اعتُبرت إسرائيل لعقود طويلة بمثابة استثمار سياسي واستراتيجي رئيسي للولايات المتحدة والغرب، حيث لعبت دور القاعدة العسكرية المتقدمة التي تضمن التذويب والسيطرة على مراكز القوى في الشرق الأوسط لصالح المعسكر الغربيناهيك عن رؤاها التوراتية الموهومة الخاصة. إلا أن تطورات الحرب الأخيرة كشفت عن تحول تدريجي في النظرة إليها، إذ أصبحت مصدرًا مستمرًا للأزمات التي لا تستطيع التحكم بمخرجاتها، وهذا عكس الخطة الاستعمارية ومسببات الدعم. فأضحت إسرائيل عبئًا سياسيًا وعسكريًا وأخلاقيًا على حلفائها، بدلاً من أن تكون عنصرًا استراتيجيًا يحقق خضوع المنطقة بما يتوافق مع المصالح الغربية وبأقل الأثمان ‘قوة قائدة لإقليم راكع’. بل تطلب شن حملة غربية وأمريكية معقدة ومتكاملة شكلت ما يشبه ‘الحرب العالمية’ في مواجهة عملية هجومية محدودة اسمها ‘طوفان الأقصى’. إن هذه الدوامة المتوالية قد تدفع صانعي القرار في الغرب في لحظة لم تعد بعيدة، إلى إعادة تقييم تكلفة دعم إسرائيل، خاصة في ظل الأزمات الاقتصادية المتصاعدة في أوروبا وتفكك العلاقات الدولية التقليدية المركبة على تيار العولمة ‘المحارب’. هذا التفكك قد يكون محصلة منطقية للحقبة الترامبية ‘أمريكا أولاً’ والساعية لصياغة علاقات دولية جديدة تعتمد على التنافس والاقتصاد الهجومي، وتحييد نظام العولمة ‘المحارب’، ولو مؤقتًا، والتوقف عن الإنفاق الخارجي غير المبرر، وتحويل ذلك إلى الاستثمار في الاقتصاد الحقيقي المعتمد على الأصول الثابتة بدل الاقتصاد الوهمي والدولار المحمي بالقوة العسكرية، ولتدوير المنافع بين دائرة مجتمعية أوسع بدلاً من دوائر محدودة مغلقة. فهذا التطور، كخلفية لمخرجات الطوفان، سيساعد في إبراز تساؤلات داخل الأوساط السياسية الغربية والأمريكية علنًا كل من موقعه ،حول جدوى الاستثمار المتواصل في إسرائيل بصورته الحالية، أم ينبغي السعي لتسويات سياسية تحفظ وجودها بأقل تكلفة ممكنة؟ في وقت أصبحت فيه عبئًا استراتيجيًا واستنزافًا لموارد دافعي الضرائب، وفي لحظة ستتفكك فيها علاقات ومعادلات ما بعد انهيار المنظومة الاشتراكية، وجلوس القوى الكبرى من الناحية الرئيسية على نظرية اقتصادية متشابهة، وستتفكك أيضًا بعض نتائج الحرب العالمية الثانية على أقل تقدير، حيث لم يعد القائمون عليها في دُفة القيادة المطلقة والتحكم. وإن استقرار الإقليم، الذي تفجره إسرائيل باستمرار، هو مصلحة مطلقة للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، آخذين بعين الاعتبار توافق هذا الإقليم مع تلك المصالح بشكل كبير حتى اللحظة. وهذا التفجير المتواصل قد يدفع الإقليم إلى زوايا دولية وترابط مصالح مغاير مع أقطاب المعادلة الدولية المتعددة، والتي من الواضح تم الإقرار بنفوذها موضوعيًا. وليس من المضمون دائمًا القدرة على التحكم بالفوضى حتى لو كانت خلّاقة وممتدة، فهدم نتائجها قد يستغرق (خمسة عشر شهرًا!!).”
إعادة تعريف إسرائيل:
في ظل هذا الواقع الجديد، بات من الواضح أن استمرار النهج العسكري الإسرائيلي لن يؤدي إلا إلى مزيد من التآكل في مكانتها الإقليمية والدولية. ومن هنا، يُرجح أن تتجه الدوائر الغربية إلى تبني مقاربة جديدة لحل الصراع، في لحظة حاسمة كما قلنا، وتكون تلك المقاربة قائمة على معالجة جذور المشكلة بدلاً من الاكتفاء بإدارتها. ويأتي حل الدولتين في مقدمة الطروحات التي تكتسب زخمًا متجددًا، ليس فقط كخيار أخلاقي أو قانوني، بل كضرورة استراتيجية لضمان استقرار المنطقة، وتقليل الأعباء الأمنية والسياسية التي باتت إسرائيل تفرضها على حلفائها، مع الاعتراف بأن الحل العسكري غير كافٍ، وأن الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي يجب أن يُحل ضمن إطار سياسي مستدام. وعلى هذا الأساس، تبرز الحاجة إلى إعادة تعريف موقع إسرائيل في المنطقة، ليس ككيان مفروض بالقوة، بل كدولة يجب أن تعيش ضمن إطار من التعايش السلمي مع محيطها، ووفق ضمانات دولية وإقليمية تضمن حقوق الفلسطينيين، وتمنع استمرار دوامة الحرب. وإن تحويل القضية الإسرائيلية من مشروع استعماري مدعوم غربيًا إلى قضية إنسانية وسياسية سيصبح أمرًا ضروريًا للحفاظ على الأمن الإقليمي والدولي، رغم الخصوصية الإسرائيلية لدى النظام الغربي والولايات المتحدة الأمريكية. وبالطبع، إن إخراج هذا الموضوع سيأخذ شكلاً ‘تلفزيونيًا!!’ مغايرًا، وقد يُجدول في سلم الترتيبات الأخيرة، وهذا لن يحدث بشكل آلي لمجرد توفر مؤشرات المأزق الاستراتيجي الإسرائيلي ومقدماته الدالة المحلية والإقليمية والدولية. فالعملية قد تمر بمنعرجات متعددة، ومنها صادمة، بين التسكين والتسخين (والحل!؟). ولترجيح حل الدولتين ضمن هذه القراءة، فنحن بحاجة إلى نضال إقليمي ووطني فلسطيني مركز يحرك طوفانًا عالميًا للحل، وبحاجة إلى تغيير في القيادة الإسرائيلية ذات التوجه اليميني الديني الفاشي الغوغائي، وفي التوجهات الشعبية الإسرائيلية العاشقة للدم، والتعبير عن رغبتها في السلام وحل الصراع. وعلى كل حال، فإن كل محاولات التلاعب والتلكؤ والتجميد، وحتى المبادرة إلى جولات عنيفة من التموضعات والمواجهات، لن تغير من مسلمات ومخرجات تلك الحرب طال الزمن أو قصر. فتلك الحرب شكلت منصة تحول تاريخية في المنطقة، وتقرأها الدوائر الاستراتيجية الغربية والأمريكية جيدًا. وبكل الأحوال، وبغض النظر عن السلوك الإسرائيلي والأمريكي والغربي، يبدو أن التاريخ بدأ يكتب فصولاً جديدة، وقد لا تكون إسرائيل، كما نعرفها اليوم، جزءًا من نهاياته.

عن Atlas

شاهد أيضاً

سموتريتش: زامير يخطط لاستئناف الحرب بشكل مختلف تماما عن هليفي

اطلس:قال وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، اليوم الإثنين، إن إسرائيل ستستأنف الحرب على غزة بقوة …