في لحظةٍ تبدو مفصلية في مسار استمرار الاستعمار الاستيطاني الممتد منذ قرن وتداعياته، تطلّ علينا وثيقة استراتيجية صادرة عن “حركة البتخونستيم” ، وهي جماعة إسرائيلية تجمع بين الجنرالات المتقاعدين والمفكرين الأمنيين ، معلنةً أن عام ٢٠٢٥ هو “عام الفرص” بالنسبة لإسرائيل . ليس بالطبع المقصود هنا فرص السلام، ولا لحظة مراجعة للذات بعد الإبادة والاقتلاع والتدمير غير المسبوق في غزة والعدوان المتواصل في الضفة في إطار جريمة محرقة القرن ٢١، بل فرصة هجومية لإعادة تشكيل البيئة الاستراتيجية والسياسية في المنطقة، بما يخدم المشروع الصهيوني ويفرض إملاءاته على الجغرافيا والتاريخ.
ينطلق التقرير من فرضية أن ٧ أكتوبر التي تمثلت في عملية “طوفان الأقصى”، قد فتحت المجال لا لرد فعل دفاعي إسرائيلي، بل لانطلاقة استراتيجية شاملة تسعى لاقتناص مكاسب كبرى. ويتحول بذلك هذا العام إلى ما يصفه التقرير بلحظة “حسم”، تستدعي المبادرة في كل الاتجاهات، دون الاكتفاء بإدارة الصراع أو قبول تسويات مرحلية.
في قلب هذه الرؤية الاستعمارية، تأتي العلاقة مع إدارة ترامب الثانية كرافعة محورية . فالتقرير يرى في هذه الإدارة فرصة تاريخية لإسقاط فكرة الدولة الفلسطينية، وتوسيع المشروع الاستيطاني الأحلالي ، وتكريس هوية إسرائيل كدولة يهودية حصرية . وتستند هذه الرؤية إلى تحالف استراتيجي مع الولايات المتحدة غير مشروط سياسياً وعسكرياً، يهدف إلى ضرب إيران وتحجيم “محور الشر الشيعي”، وخلق واقع إقليمي جديد بالتطبيع المُتاح مع بعض الدول الإقليمية يعزل الفلسطينيين ويحطم أي مشروع وطني جامع.
في السياق الداخلي ، يطرح التقرير خطوات بعيدة المدى لتغيير بنية المجتمع الإسرائيلي نفسه ، من فرض الخدمة العسكرية على كل الفئات بما فيها الحريديم والعرب ، واستمرار الانقلاب اليميني المتطرف الديني على مفاصل الدولة ، إلى تعزيز الاستيطان في مناطق الجليل والنقب والضفة كما وضم المناطق ، وخلق “مجتمعات طليعية” يهودية في هذه المناطق بهدف فرض وقائع ديمغرافية وسياسية جديدة . كما يُعاد إحياء فكرة “الخطر الصامت” بين فلسطينيي الداخل ، والدعوة لتشكيل “حرس وطني” لمراقبة وضبط هذا الحيّز ، في ما يشبه التفكير بعقلية الحصار والسيطرة الكاملة .
أما على صعيد الجبهات ، فتُرسم ملامح خطة هجومية متعددة الاتجاهات تتمثل في تنفيذ ضربات استباقية ضد إيران ، تصفية حكم حماس في غزة و تغيير واقع الحكم فيها تحت وجود قوات الاحتلال والسيطرة على ثلث مساحتها ، منع أي تواصل جغرافي بين الضفة وغزة ، إسقاط خيار الدولة الفلسطينية نهائياً ، وتجهيز لمرحلة ما بعد رحيل الرئيس محمود عباس عبر خطة حكم ذاتي موسعة أو تفتيت ما يتبقى من الضفة بعد الضم والاستيطان إلى كانتونات . وعلى الجبهة الشمالية ، تُستحضر مجددا فكرة كسر حزب الله ، وتفكيك تأثير إيران في لبنان وسوريا بشكل نهائي والتلويح بتغير واقع الأردن الشقيق كي يكون التهجير الفلسطيني ممكنا اليه .
أمام هذه الرؤية ، لا بد لنا نحن الفلسطينيين من لحظة صدق تاريخية . فنحن لا نواجه فقط حكومة احتلال فاشية ، بل مشروعا استعماريا متكامل الأركان يستند الى الرؤية الصهيونية العالمية منذ بدايتها الى جانب السردية التوراتية المرادفة لها ، يتم العمل عليه ضمن توازنات إقليمية ودولية تتغير سريعاً اليوم .
ومن هنا ، تبرز أهمية الدورة القادمة للمجلس المركزي الفلسطيني خلال اليومين القادمين ، كمنصة مفصلية لصياغة رد وطني متكامل على هذه التهديدات من خلال استراتيجية تبتعد عن ردود الافعال . لم يعد مقبولا الاكتفاء بإصدار البيانات أو التأكيد على مواقف محفوظة . نحن بحاجة إلى إعادة الاعتبار لوظيفة القيادة الفلسطينية ، ولأدوات النضال المتاحة ، ولإعادة بناء المشروع الوطني الفلسطيني على أسس المقاومة الشعبية والسياسية المتكاملة ، وعلى أساس وحدة الأرض والشعب والقضية ، واستعادة الثقة الشعبية بدور منظمة التحرير الفلسطينية كممثل شرعي وحيد للشعب الفلسطيني من خلال تطويرها والارتقاء بدورها وتوسيع قاعدة المشاركة السياسية من كافة فئات المجتمع خاصة الشباب .
إن مواجهة ما تخطط له إسرائيل من خلال ما تسميه “عام الفرصة”، تستدعي منا نحن الفلسطينيين أن نحول هذه اللحظة إلى عام إعادة التصويب الوطني . التصويب نحو رؤية موحدة وجامعة ، وسياسات تواكب حجم التحولات الجارية بالأقليم والعالم . فلا بد من كسر الانقسام ، واستعادة زمام المبادرة الفلسطينية الهجومية ، وتعزيز تحالفات دولية جديدة تبنى على حجم التضامن الشعبي الدولي وتعزيز صمود شعبنا في كل أماكن وجوده ، خاصة المحاصر بحرب الاقتلاع .
“عام الفرصة” بالنسبة لإسرائيل ، قد يكون أيضاً عام القرار الفلسطيني الوطني المستقل ، إن توافرت الإرادة السياسية ، وخرجنا من حسابات الفصائل والمصالح الضيقة او الضغوطات الخارجية ، إلى أفق الوطنية الشاملة وتعزيز دور شعبنا كمصدر للسلطات . فإما أن نكون على قدر هذه اللحظة ، أو قد نخسر فرصة أخيرة للدفاع عن وجودنا وهويتنا وحقنا في الحياة الحرة على أرضنا .