اطلس:كان الشهيد ياسرعرفات نموذجًا للقائد التاريخي، التي إتسمت صفاته بالعمقٍ، والكاريزما، والوعي والانصهار مع خصائص وطبيعة شعبه وثقافته، وقد أدار بذكاء نادر التعقيدات الاجتماعية والسياسية لشعبه، فاستطاع أن يُمسك بالخيوط المتشابكة دون أن تنقطع، مقدمًا نموذجًا للزعيم الذي يتسع قلبه للجميع، ويجيد احتواء المتناقضات دون أن يفقد البوصلة الوطنية، ومدركاً لتعقيدات مأساة هذا الشعب المركَّبة. فمدرسته السياسية لم تكن مجرد نهج للمناورة أو البراغماتية، بل كانت مشروعًا وطنيًا متكاملًا يقوم على الحفاظ على وحدة الشعب الفلسطيني أينما كان، وفي كل الظروف. وفهم باكرًا أن التناقض الأساسي مع الاحتلال الإسرائيلي لا يحتمل الانقسامات الداخلية، فكان حريصًا على جمع الفصائل والقوى والشخصيات الوطنية، باختلاف مشاربها، تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية،ولم يقطع مع أحد بغض النظرعن عنوانه، مؤمنًا أن التعددية قوة إذا ما أُديرت بحكمة وطنية. كان قائداً “يأخذك إلى حافة الهاوية ويعود بك سالمًا”، و”عينٌ على إسرائيل وعينٌ على العرب”. إلا أنه في محاولة إبحاره الأخيرة عائدًا من حافة أوسلو، تحالفت شياطين الأرض، فلم يَعُد “الختيار” سالمًا، ولا بقينا نحن كذلك من بعده. فمدرسته، بكل ما فيها من مرونة وصلابة، ومن انفتاح وصرامة، تبقى حتى اليوم الشيفرة والحبكة الفلسطينية الأصلية، لفهم معنى الصمود الفلسطيني وآليات النصر.
حماس: الوطني قبل الأممي
صُدِمَتْ حركة “حماس” عميقًا بعد السقوط السريع لحكم الإخوان زمن الربيع العربي، خاصة بعد الإطاحة بالرئيس المصري محمد مرسي عام 2013، مما أجبرها على إعادة تقييم أولوياتها الفكرية والسياسية، وفتح الباب لتحولات بنيوية عميقة في مسارها. فانكفأت نحو الداخل الفلسطيني، وأعادت تعريف ذاتها كحركة تحرر وطني فلسطينية قبل أن تكون جزءًا من المشروع الإسلامي الأممي. وتجلَّى هذا التحول بشكل واضح في الوثيقة السياسية التي أصدرتها الحركة عام 2017، والتي أكدت على الطابع الفلسطيني لها، ومعتبرة أن إقامة دولة فلسطينية مستقلة كاملة السيادة، وعاصمتها القدس، على خطوط الرابع من حزيران/يونيو 1967، مع عودة اللاجئين والنازحين إلى منازلهم التي أُخرجوا منها، هي صيغة توافقية وطنية مشتركة. مشكلاً ذلك تقاربًا لافتًا مع الرؤية المرحلية التي تبنَّتها منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات منذ سبعينيات القرن الماضي. ولم يكن أيضاً مجرد تعديل لغوي في الخطاب، بل عكس تغييرًا عميقًا في البنية الفكرية والسياسية للحركة، انعكس في تبنِّي خطاب وطني وحدوي، وإعلاء مفاهيم الشراكة السياسية، والوحدة الوطنية، والعمل ضمن الإطار الفلسطيني الجامع.
فأشار هذا التحول والممارسات اللاحقة ،إلى اقتراب “حماس” العملي من المدرسة السياسية التي رسَّخها ياسر عرفات، والتي قامت على البراغماتية السياسية وتقديم المصلحة الوطنية الفلسطينية العليا على أي اعتبار أيديولوجي خاص. وبدل أن تكون المنافسة بين “فتح” و”حماس” صراعًا أيديولوجيًا محضًا بين مشروعين متناقضين “الإسلامي مقابل الوطني”، تحولت إلى منافسة سياسية على البرامج وأساليب إدارة المشروع الوطني الفلسطيني. وإن كان تحول حماس نحو خطاب وطني جامع، لم يكتمل بعد، فقد تطلب ذلك وبالتوازي معه ،فتح باب إعادة تشكيل المشروع الوطني الفلسطيني ،بصورة أوسع وأكثر تمثيلية ووحدوية، ولكن هذا لم يحدث .
روافد “صراع “الوحدة
إن “صراع” الوحدة الفلسطينية ،عكس معمعة جدلية حادة بين “شرعية المقاومة المسلَّحة” و”شرعية الدولة”، وبين “ثبات المبدأ” و”المرونة الواقعية”. فهذه الثنائية تُعتبر صراعًا بين نموذجين: الأول يُعبِّر عن مؤسسات مدنية دستورية تعمل بسقف ضيق ورعاية دولية، والثاني يعمل عبر شبكات اجتماعية دينية مواكبة للمقاومة، وتقدِّم خدمات اجتماعية وسياسية متلاحمة.
وبهذا المعنى، شاهدنا تبادلًا واضحًا في المواقع السياسية والفكرية بين “فتح” و”حماس”. “فتح”، التي كانت رمز الكفاح المسلح، تحولت إلى راعية لمسار تسوية سياسية فاشلة، قتل فيها رابين لمنعه من التقدم في مشروع أوسلو، واغتيل عرفات لمنعه من الخروج من أوسلو!. أما “حماس”، والتي نشأت من رحم الإخوان المسلمين ذوي الخلفية الإصلاحية، أصبحت الحاملة الرئيسية لراية المقاومة المسلحة. إن هذا التبادل لم يكن مجرد تغيير تكتيكي، بل أصبح سمة بنيوية للصراع الفلسطيني الداخلي. فاتهمت “حماس” “فتح الرسمية” والسلطة الفلسطينية بالتفريط والتفكيك، بينما رأت “فتح”، باعتبارها حزب السلطة الوطنية، أن العمل المسلح غير المنضبط الذي تقوده “حماس” وفصائل أخرى يضر بالمشروع الوطني الفلسطيني، ويمنح إسرائيل ذرائع لمواصلة احتلالها واستيطانها، وعالجته بالقبضة الأمنية وليس بالتنسيق والاحتواء .
وفي صميم الخلاف بين السلطة الفلسطينية، التي تقودها حركة “فتح” وجناحها السياسي-الأمني، وحركة “حماس”، تكمن معركة على شرعية التمثيل ومفاهيم المقاومة والعلاقة بالاحتلال. إنه ليس مجرد صراع على الكعكة السياسية أو حصص السلطة. فالسلطة، منذ ولادتها عبر أوسلو في منتصف التسعينيات، تبنَّت رؤية تقوم على “تراكم الدولة” خطوة خطوة، وبقبول إطار مؤسساتي ضيق، وبالتنسيق الأمني مع إسرائيل كأمر واقع لا بد من التعامل معه، أما “حماس”، فترتكز فكريًا على المرجعية الإسلامية ومبدأ الجهاد في مواجهة التطرف الديني اليميني الفاشي الإحلالي الإسرائيلي.
ومن الناحية السياسية-التنظيمية، تشكَّلت لدى السلطة طبقة إدارية-أمنية راسخة تعتمد على إدارة التنازلات لإبقاء أجندتها المالية والسياسية حية. فهي تُعتبر أي “احتقان شعبي” بمثابة فشل في ضبط الأوضاع، مما يُهدد مقاييس شرعيتها أمام المانحين وداعميها الإقليميين. أما “حماس”، فشبكتها المؤسسية ترتبط بصناديق دولية واجتماعية أخرى، وبأطر الخدمات الاجتماعية والدعوية. وهنا تتقاطع النزعة الأمنية للسلطة مع الحراك الدعوي – الخيري لحماس، فتقعان في صدام دائم على الأرض والنفوذ الرمزي.
وفي البعد الاجتماعي، ينبع التمايز من بيئات حاضنة مختلفة. فالسلطة استجدت ولاء شرائح من الطبقة الوسطى الحضرية والأكاديميين والتكنوقراط، الذين
وجدوا في شبكة الراتب الثابت والامتيازات الوظيفية متنفسًا للتمايز الطبقي. بينما بنت “حماس” قواعدها الشعبية في المخيمات والفئات الريفية والمهمشة اقتصاديًا، من خلال تقديم خدمات التعليم والدعم الإغاثي والزيارات العائلية، ما منحها مصداقية، على عكس السلطة التي باتت رمزًا للبيروقراطية ومشجبًا للفساد.
ومن منظور العلاقة بالاحتلال، تحول التنسيق الأمني إلى نقطة صراع أساسية. ترفضه حركة “حماس” كليًا، بينما تبرر السلطة سياساتها هذه بأنها تمنع تحولات أمنية أكثر قسوة كان يمكن أن تفرضها إسرائيل لو توقف التعاون.
استبعاد سياسة “الاستيعاب الإيجابي”
فلسطينيًا، لم ترحب السلطة الفلسطينية عمليًا بهذا التحول، ولم تترجمه إلى إجراءات وحدوية تكاملية مع “حماس”، ولو بهدف ” الاستيعاب الإيجابي”، ووضعها بآلية ضغط على “الإسرائيليين”، حتى ضمن تأمين تنفيذ اتفاقيات أوسلو. وبهذا القصور الإجرائي، حُرم الشعب الفلسطيني من هذه الجدلية، وبُعثرت رزمة قوته الحقيقية. فقد ظلت ذهنية السلطة الرسمية تتصرف استقراءً بتشكيل “حماس” تهديدًا مزدوجًا لها، فخشيت أن يؤدي انضمامها إلى منظمة التحرير إلى تغيير موازين القوى داخلها، وإنهاء هيمنة “فتح” المطلقة على القرار الفلسطيني الرسمي، والإنقاص من امتيازاتها التاريخية. كما أن دخولها إلى مؤسسات التمثيل الرسمي الفلسطيني قد يؤدي إلى مراجعة المسار التفاوضي ذاته الذي تمسكت به السلطة على مدى عقود، مع تمسك “حماس” بخيار المقاومة ورفضها الاعتراف بشرعية “إسرائيل”من الناحية المبدأية. ولقد استُخدمت عدة أدوات لإعاقة اندماج “حماس” في منظمة التحرير، من بينها فرض شروط سياسية معقدة، أبرزها التزامها المسبق بشروط الرباعية الدولية، وسلسلة من الشروط التي تجعل انضمامها تخليًا عن قسم كبير من هويتها السياسية والعسكرية. وتم تعطيل مسارات المصالحة الوطنية عبر افتعال عراقيل متكررة، واستُخدمت خطيئة “حماس” بتنفيذ الانقلاب العنيف المدان في قطاع غزة عام 2007، لدمغها كطرف انقلابي غير ملتزم بالمشروع الوطني، رغم سلسلة الاتفاقات الوحدوية المتواترة، وآخرها اتفاق بكين. فعملياً تحول شعار الوحدة الوطنية وإعادة بناء وتوسيع منظمة التحرير الفلسطينية، وبناء قيادة وطنية موحدة لنضالاته، إلى سراب، ولغة تداول غير قابلة للصرف.
ومع اندلاع معركة “طوفان الأقصى” في أكتوبر 2023، اشتد الجدل حول جدوى العمل المسلح وجدوى المسار السياسي، ودُفع بهما نحو الواجهة. فقد سعت “حماس” إلى فرض المعادلة الفلسطينية بالقوة الصادمة، معتبرةً أن اتفاقيات أوسلو لم تحقق للشعب الفلسطيني سوى المزيد من الاستيطان والحصار، وتوسعت عمليات التهويد ومصادرة الأراضي في ظلها، وتضاعف عدد المعتقلين، وتصاعد خطر تهويد المسجد الأقصى وهدمه، وتوسعت الاتفاقيات الإبراهيمية، وشُطبت الكيانية الفلسطينية ، وأُلغيت من التداول العلني. أما السلطة الوطنية، فرغم إدراكها لفشل مسار أوسلو، إلا أنها لم تستنبط بديلًا عنه، سوى المضي في تعزيز التنسيق الأمني ومحاولة إدارة الصراع بأقل الخسائر. فلم تقدّم عمليًا أي بديل، أو تجرِ أي تعديل في مسارها، بل إنها تعمَّقت في الهيمنة على منظمة التحرير الفلسطينية وحتى على حركة “فتح” نفسها، محوِّلة إياهما إلى مظلات تغطية لمسارها السياسي حين الطلب، مع تفريغهما من مضمونهما ودورهما التاريخي ،مع التعمق في صناعة أسباب الفرقة وانعزال مكونات وعناصر قوة الشعب الفلسطيني يوماً بعد يوم .
لا بديل عن الوحدة
وهكذا، من المشاهد المتقابلة، يبدو أن “فتح” و”حماس”، قد تبادلتا فعليًا المواقع. وفي ضوء ذلك، توضح تجربتهما أن مسارات المقاومة الفلسطينية لا تخضع لخطٍ واحدٍ ثابت، بل هي في حالة انزياح مستمر بفعل المتغيرات الإقليمية، فضلاً عن الديناميات الداخلية “الانقسام السياسي والمناطقي”. فالسلطة تجد دعمًا أوروبيًا وأمريكيًا مقابل التزامها بأدوات إدارة الأزمة، بينما تزدهر “حماس” بموارد إقليمية منافسة. فتظل هذه الثنائية سجينة “موازين قوى” لا تتوقف عن التغير، وتتأثر بالتبدلات في السياسة الأمريكية-الإسرائيلية، وبملامح التضامن العربي والإسلامي، وبمدى قدرة كل طرف على تعبئة القاعدة الشعبية عبر خطابيهما المتناقضين بين “السلام التدريجي” و”الجهاد المستمر”. وستبقى هذه الجدلية متفاعلة في معركة التحرير، فتبادل البرامج والرؤى السياسية بينهما ليس مجرد تحولات سياسية عابرة، بل تعبير عن أزمة بنيوية أعمق في المشروع الوطني الفلسطيني، الذي ما زال يبحث عن صيغة جديدة تجمع بين المقاومة الفاعلة والرؤية السياسية الواقعية، بعيدًا عن الانقسامات العبثية والمصالح الفئوية الضيقة، إلى أن تتبلور رؤية فلسطينية جامعة تأخذ من الطرفين نقاط قوتهما في معركة الاستقلال.
وبكل الأحوال، ورغم كل ذلك، وأمام تداعيات “طوفان الأقصى” وحرب الإبادة والتطهير العرقي، ومواجهة كل من “حماس” والسلطة الوطنية لمخطط التصفية النهائية المعلن إسرائيلياً،وجب على الطرفين إعادة تقييم مواقفهما، “فحماس” تواجه تحدي الصمود والتأقلم، و”فتح-الحزب الحاكم” مطالبة بتجديد مشروعها الوطني واستعادة ثقة الشارع الفلسطيني الذي بات يشعر بالإحباط من مسار “السلام” المجهض. فالتوجه نحو الوحدة والقيادة الموحدة والانتخابات الديمقراطية الحرة، وإعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية وتوسيعها على أسس كفاحية،ليس ترفاً زائداً ، أو ملكاً حصرياً لهما، بل استحقاق تاريخي حيوي تأخر كثيرًا، وإفشاله وتحويله الى سراب سيكلف غالياً.