استهداف وشيطنة الأونروا: تصفية الشاهد الأخير على النكبة وحق العودة

اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: في لحظة من أكثر اللحظات السياسية قسوة على الشعب الفلسطيني، تتكثف الهجمة الإسرائيلية والدولية على وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين “الأونروا”، في مشهد يتجاوز البعد الإنساني ليطال جوهر القضية الفلسطينية ذاتها، فالوكالة التي أنشئت بقرار أممي عام 1949 كإطار مؤقت لمعالجة كارثة اللاجئين تحولت بمرور العقود إلى شاهد دائم على النكبة، وإلى حجر عثرة في وجه الرواية الصهيونية التي تحاول طمس الحقائق وإعادة كتابة التاريخ وفقًا لمصالح الاحتلال.

منذ نشأتها، كانت الأونروا بمثابة التجسيد الملموس لوجود اللاجئ الفلسطيني الذي لم يعد إلى أرضه بعد، وبالتالي فإن مجرد بقائها واستمرار عملها يشكل تحديًا سياسيًا وأخلاقيًا للاحتلال الإسرائيلي، ولهذا لم تكن الهجمة على الوكالة عرضية أو مرتبطة بممارسات بعينها، بل هي امتداد لسياسة ممنهجة تهدف إلى تصفية الأونروا كرمز ومؤسسة، في سياق أوسع يسعى إلى تصفية قضية اللاجئين برمتها، فبالنسبة لإسرائيل، لم تكن الأونروا يومًا مجرد وكالة خدمات، بل كانت -وما زالت- إحدى بقايا الهزيمة الأخلاقية التي ألحقتها النكبة بالمجتمع الدولي، والتي تحاول تل أبيب إزالتها كي لا يبقى ما يُذكّر بالجرح المفتوح.
تعتمد إسرائيل في حملتها على مسارين متوازيين: مسار سياسي ضاغط يستهدف وقف تمويل الوكالة وتجفيف مواردها، ومسار دعائي شيطاني يسعى إلى تشويه صورتها عبر اتهامات جاهزة تتكرر كلما اقتضت الحاجة، فكلما اشتدت المقاومة الفلسطينية، وكلما تصاعد الوعي الوطني في أوساط اللاجئين، تظهر مزاعم جديدة حول تحريض الأونروا في مناهجها أو تورط بعض موظفيها في “أنشطة إرهابية”، وفقًا للمصطلحات الإسرائيلية التي تتبناها أطراف دولية بصورة آلية وبدون تحقق جدي.

وقد بلغ هذا المسار ذروته خلال العدوان الأخير على غزة، حين اتهمت إسرائيل عددًا من موظفي الأونروا بالمشاركة في عملية طوفان الأقصى، لتقوم دول كبرى بتعليق تمويلها للوكالة في ذروة الكارثة الإنسانية، في سلوك لا يمكن فصله عن الضغوط السياسية لتقويض الوكالة وابتزازها كي تُغيّر خطابها وتعيد صياغة علاقتها باللاجئين وفق مقاييس الاحتلال، ولعل توقيت هذه الاتهامات وطبيعة الجهات التي تبنتها يفضح البعد السياسي الخالص وراءها، خصوصًا حين تُقدّم مزاعم أمنية على أنها “حقائق دامغة”، ثم يتضح لاحقًا أن معظمها غير موثق أو مبني على تقارير استخباراتية مسيسة.
الهدف النهائي من هذه الحملة لا يخفى على أحد: تفكيك الأونروا أو دمجها في مفوضية شؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة، بحيث يُعامل اللاجئ الفلسطيني كأي لاجئ آخر، من دون خصوصية سياسية أو حق في العودة، وهو ما يعني فعليًا شطب حق العودة من التداول الدولي وتحويل القضية من مأساة سياسية إلى مجرد حالة إنسانية قابلة للإغلاق، وهذه الخطة ليست وليدة اللحظة، بل تتماشى مع الرؤية الإسرائيلية القديمة التي تعتبر الأونروا عائقًا أمام “السلام”، أي أمام التسوية التي تتجاهل حق العودة وتفرض التوطين كأمر واقع.
وفي المقابل، يبقى اللاجئون الفلسطينيون في المخيمات، من غزة إلى لبنان والاردن وسوريا ، هم الحصن الأخير للدفاع عن وجود الأونروا باعتبارها جزءًا من معركتهم اليومية من أجل الاعتراف، فرغم كل ما تعانيه الوكالة من أزمات مالية وتشكيك دولي، إلا أن الدعم الشعبي لها لم يتراجع، وهو ما يعكس إدراكًا جمعيًا عميقًا لطبيعة المعركة التي تخاض ضدها ، كذلك أظهرت بعض الدول تمردًا محدودًا على التوجه الأمريكي – الإسرائيلي، حين عادت إلى استئناف التمويل بعد انكشاف الطابع السياسي للاتهامات.

لكن اللافت في هذا المشهد هو الغياب شبه الكامل لموقف عربي رسمي موحد يضع خطوطًا حمراء أمام محاولات تصفية الأونروا، رغم أن القضية تمس الأمن القومي العربي والشرعية التاريخية لمطلب العودة ، فباستثناء بعض التحركات الدبلوماسية الضعيفة، لا يبدو أن هناك رؤية استراتيجية عربية للدفاع عن الوكالة، بل إن بعض الأنظمة تتماهى ضمنيًا مع خطاب تحميل الأونروا مسؤولية “التحريض” حفاظًا على علاقاتها مع واشنطن أو في إطار اتفاقيات التطبيع الأخيرة، أما السلطة الفلسطينية، التي يُفترض أن تكون في طليعة المدافعين عن الأونروا، فإنها تبدو غارقة في أزمتها الداخلية ومربوطة بقيود التنسيق الأمني والدعم المشروط، ما يجعل خطابها دفاعيًا ومرتبكًا لا يرتقي إلى مستوى الهجمة.
إن استهداف الأونروا ليس مجرد حلقة عابرة، بل هو أحد فصول الخطة الكبرى لتصفية القضية الفلسطينية، تمامًا كما أن الدفاع عنها لا ينطلق فقط من الحرص على التعليم والصحة والإغاثة، بل من إدراك عميق بأن هذه المؤسسة الأممية تمثل آخر الشواهد الحية على جريمة لم تنته، وحق لم يُسقط بالتقادم، لذا فإن معركة الأونروا هي في جوهرها معركة على الرواية، على التاريخ، وعلى المستقبل الفلسطيني كله.

عن Atlas

شاهد أيضاً

اسماعيل الريماوي يكتب : في ذكرى 77 النكبة اسرائيل تعيد كتابة الجريمة من جديد

اطلس:كأن الزمن متجمدٌ عند لحظة النكبة، وكأن الجغرافيا تئن من الغياب، وكأن الدم الفلسطيني لا …