اعتراف نتنياهو وجريمة التطهير العرقي في غزة

كتب إسماعيل جمعة الريماوي: في واحدة من اللحظات التي تتجلى فيها طبيعة المشروع الصهيوني العاري من كل قناع أخلاقي أو قانوني، خرج بنيامين نتنياهو ليعترف، في جلسة مغلقة مع ضباط احتياط، بما ظل قادة إسرائيل ينكرونه لسنوات طويلة، حين أكد أن تدمير غزة ليس فقط ردة فعل على هجمات المقاومة بل جزء من خطة منظمة لاقتلاع السكان الفلسطينيين ومنع عودتهم إلى أرضهم، في تكرار صريح لنكبة 1948 ولكن بأساليب أكثر دموية وإحكامًا، بهذا الاعتراف الذي كُشف لاحقًا عبر تسريبات إعلامية تسقط آخر أوراق التوت عن الاحتلال وتظهر حقيقة ما يجري في غزة، ليس حربًا بل مشروع تهجير قسري ممنهج يرمي إلى تفريغ الأرض من أهلها وتحويل القطاع إلى منطقة غير قابلة للحياة عبر القصف والتجويع والتدمير الشامل، في مشهد لا يمكن فصله عن تاريخ طويل من التطهير العرقي الذي ارتبط منذ البداية بتكوين الكيان الصهيوني نفسه.

هذه الاستراتيجية الصهيونية لا تستهدف بنية تحتية أو تشكيلات مسلحة بقدر ما تستهدف الوجود الفلسطيني ذاته، حيث أصبح القصف أداة هندسية لتفكيك المجتمع والتجويع وسيلة نفسية لدفع الناس إلى الرحيل، والرسالة التي يراد إيصالها للناس تحت الركام تقول: لا مستقبل لكم هنا، ما كشفه نتنياهو لا يشكل زلة لسان بل اعترافًا سياسيًا صريحًا يبدد كل الروايات الزائفة عن الدفاع عن النفس، ويؤكد أن ما يجري هو جريمة مكتملة الأركان تخالف القوانين الدولية واتفاقيات جنيف وتشكل خرقًا واضحًا لكل المبادئ التي يُفترض أن يحميها العالم الحديث، هذا الاعتراف لا يجب أن يبقى في إطار التوثيق فقط، بل من الضروري توظيفه قانونيًا وسياسيًا لفتح الملفات في المحاكم الدولية وفضح المشروع الإسرائيلي أمام الرأي العام العالمي، لأن صمت العالم وتحايله لم يعد ممكنًا في ظل وضوح النوايا وعلنيتها.
غير أن التصدي لهذا المشروع لا يمكن أن يتم عبر المواقف الغاضبة أو اللغة الإنشائية، بل يستلزم مواجهة متعددة الجبهات تبدأ أولًا من الساحة الفلسطينية التي تعاني من انقسام مميت سمح للاحتلال بتجزئة الرد وتفريغ المقاومة من بعدها الوطني الشامل، ما هو مطلوب اليوم هو تجاوز هذا الانقسام وبناء جبهة وطنية موحدة ترى في ما يجري تهديدًا وجوديًا لا صراعًا ظرفيًا، وتتعامل مع المعركة باعتبارها معركة بقاء لا مجال فيها للحسابات الفئوية أو التوازنات المرحلية، وفي الميدان الإعلامي لا بد من إعادة تعريف ما يجري في غزة بوصفه جريمة تطهير عرقي، وليس مجرد حرب متبادلة، عبر استخدام لغة القانون الدولي والشهادات والوثائق التي تدين إسرائيل وتجرّدها من شرعيتها الأخلاقية والسياسية، ما قاله نتنياهو يجب أن يُحوَّل إلى مادة قانونية وتحريضية من أجل فرض عقوبات فعلية على القادة الإسرائيليين وتفعيل ملفات الملاحقة الجنائية بحقهم، وعلى المستوى العربي والإسلامي فإن الموقف الشعبي يجب أن يتجاوز لحظة الغضب ويتحول إلى حركة ضغط منظم تبدأ من المقاطعة الاقتصادية والثقافية ولا تنتهي بالمظاهرات، بل تسعى إلى عزل إسرائيل دوليًا كما جرى مع نظام الفصل العنصري في جنوب إفريقيا، فما تملكه الجماهير من طاقة لا يزال أكبر من قدرة الأنظمة على كبحه إذا استمر الزخم وتطورت أدوات التنظيم والضغط .
وفي الميدان الإنساني لا يمكن مواجهة سياسة التهجير دون دعم فعلي لصمود سكان غزة الذين يتعرضون لحرب إبادة باردة ومستمرّة، وهو دعم لا يتوقف عند الإغاثة المباشرة بل يمتد إلى تأمين بيئة إعلامية وقانونية تحمي حقهم في البقاء وتوصل صوتهم إلى العالم، كما لا يمكن فصل ما يجري في غزة عن سياقه الإقليمي، فالمعركة ليست محلية، وإسرائيل تدرك جيدًا أن إفشال مشروعها في غزة قد يفجّر تماسك محور المقاومة الممتد من لبنان إلى اليمن وسوريا والعراق، ولهذا تسعى بكل الوسائل لتفكيك هذا المحور عبر الضربات والفتن وإشعال الساحات، غير أن الرد لا يكون بالدفاع وحده بل بإعادة تنظيم الردع الإقليمي وإبراز وحدة الجبهات في وجه المشروع الأمريكي-الصهيوني المشترك .
إن ما قاله نتنياهو ليس مجرد تصريح عرضي بل إعلان حرب على الوجود الفلسطيني بكل أشكاله، ورد الفعل الحقيقي على هذه النوايا يجب أن يكون تأسيس مشروع مقاومة شامل، لا يكتفي بالصمود بل يبني على أساس التحرير، مشروع وطني لا تقوده سلطة منقسمة بل جبهة موحّدة، ومقاومة لا تُستنزف في لحظات بل تتحول إلى استراتيجية طويلة النفس، لأن ما يجري اليوم هو اختبار للوعي الفلسطيني والعربي، اختبار للرواية والتاريخ والهوية، وكل تراجع في هذا المسار يعني اقتراب النكبة من صورتها الكاملة والأخطر.

عن Atlas

شاهد أيضاً

في ذكرى النكبة: المخيمات الفلسطينية بين الاجتياحات والتهجير المستمر

اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: لا تعود النكبة الفلسطينية إلى عام 1948 كحدث منقطع في الزمن، …