اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: في قلب المدينة المقدسة، حيث تتشابك الأزمنة وتتنازع الروايات، تتحوّل القدس كل عام إلى مسرح لاستعراض القوة الإسرائيلية من خلال “مسيرة الأعلام” التي تمرّ من قلب أحياء الفلسطينيين، في عرض صريح للهيمنة ومحاولة فجة لتثبيت السيادة الإسرائيلية على المدينة التي بقيت عبر العصور رمزًا للهوية الإسلامية والعربية والمسيحية. لا تكتفي المسيرة بالمرور، بل تصحبها هتافات عنصرية، واعتداءات على السكان، واستفزازات موجهة بعناية لجرّ المدينة إلى مزيد من التوتر.
لكن هذا العام، تأتي المسيرة في لحظة أشد سوداوية، إذ تُباد غزة بلا هوادة، وتُهدم الأحياء فوق رؤوس ساكنيها، وتُقصف المستشفيات والمخابز والمساجد، في مشهد يُعيد إلى الذاكرة صور النكبة، لا كذكرى بل كواقع متجدد. وفي هذا السياق، لا تبدو مسيرة الأعلام حدثًا منفصلًا، بل جزءًا من استراتيجية واحدة تهدف إلى كسر إرادة الشعب الفلسطيني وفرض الرواية الإسرائيلية من النهر إلى البحر.
القدس بين القانون والواقع
قانونيًا، تندرج الممارسات الإسرائيلية في القدس ضمن انتهاك صريح للقانون الدولي. فالقدس الشرقية، بما فيها البلدة القديمة، أُعلنت منذ عام 1967 أرضًا محتلة بحسب قرار مجلس الأمن رقم 242، وكل ما بُني فيها من مستوطنات وتغييرات ديموغرافية وإدارية مرفوض دوليًا وفق اتفاقيات جنيف وقرارات الأمم المتحدة. ومع ذلك، لم تتوقف إسرائيل يومًا عن محاولة فرض أمر واقع جديد، عبر التهويد المكثف، وهدم المنازل، وسحب الهويات، وإغلاق المؤسسات، واقتحام المسجد الأقصى. وها هي اليوم تستكمل المشهد بمسيرة استفزازية ترمي إلى قول شيء واحد: هذه مدينتنا، ولن يُسمح لغيرنا برفع علمه فيها.
ولكن القانون، كما يبدو، فقد فاعليته في القدس، لأن من يُفترض أن يطبقه إما صامت أو متواطئ. فالدول الكبرى التي تتغنّى بالديمقراطية وحقوق الإنسان، تتفرج على مشاهد التنكيل في القدس وغزة، وتجد في رواية “حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها” مخرجًا أخلاقيًا زائفًا للصمت، بل وحتى للدعم العسكري.
البُعد التاريخي للمسيرة
مسيرة الأعلام لم تكن دائمًا بهذا الشكل العدواني، لكنها تحوّلت في العقدين الأخيرين إلى أداة سياسية لتكريس السيطرة، إذ أن اختيار يومها مرتبط بما يسمى “يوم توحيد القدس”، أي الذكرى التي تحتفل بها إسرائيل بضمّ الجزء الشرقي من المدينة في حرب 1967، وهي حرب لم تكن تحريرًا كما تُصوّر في الرواية الصهيونية، بل لحظة حاسمة في تاريخ الاحتلال، تمّ فيها تهجير الآلاف ومحو معالم فلسطينية عريقة، وتكريس مشروع استيطاني طويل المدى.
لكن القدس لم تخضع. فمن انتفاضة الأقصى إلى هبّة باب الأسباط، ومن معركة البوابات الإلكترونية إلى هبّة الشيخ جراح، بقيت القدس تقاوم بما تملك، وبمن بقي من أبنائها فيها. ولهذا فإن مسيرة الأعلام ليست مجرد تظاهرة، بل محاولة سنوية لكسر هذا النفس المقدسي الذي لا يقبل الخضوع، ولن يُرفع فيها العلم الإسرائيلي بلا مقاومة، حتى وإن كانت بلا سلاح.
وحدة الجبهات… وغربتها
ما يثير الألم حقًا أن هذه اللحظة التي يُفترض أن تكون عنوانًا لوحدة الساحات، تكشف في المقابل حجم التشرذم العربي والإسلامي. فبينما توجّه إسرائيل نيرانها إلى غزة والقدس والضفة والجنوب اللبناني وحتى سوريا، لا تزال المواقف الرسمية تراوح بين الإنكار والخذلان، وكأن هذه الجبهات ليست متصلة، وكأن القدس لم تكن دائمًا البوصلة التي توحد الأمة عند اشتداد الخطر.
لكن رغم كل ذلك، تبقى القدس حجر الزاوية، لا لأنّها مقدسة فقط، بل لأنها تختصر في لحظة واحدة كل ما يعنيه الاحتلال: النفي، والاستيطان، والتهويد، والقتل البطيء للهوية. ولهذا فإن معركتها لم تنته، ولن تنتهي بمسيرة، ولا بقصف، ولا بصفقة، لأنها باقية ما بقي هذا الشعب الذي عرف كيف يحرسها بالحجارة، والكلمات، والدماء.
خاتمة: صرخة القدس الأخيرة
في القدس اليوم لا ترفرف الأعلام فقط، بل تُطعن الكرامة في قلبها، ويُعتدى على الذاكرة أمام عيوننا، لا لأننا عاجزون، بل لأننا صرنا نتعايش مع الجرح المفتوح كما لو كان قدرًا لا يُرد. غزة تحترق، والقدس تُستباح، ونحن نكتفي بالمشاهدة، نعدّ الشهداء، ونخزّن الغضب في قلوبنا كأننا ننتظر نكبة جديدة لنبكي عليها لاحقًا. ليست القدس قضية عابرة في نشرات الأخبار، وليست معركة مقدسيين وحدهم، بل هي آخر ما تبقى من شرفنا المشترك. فإن تُرفع أعلام الاحتلال في شوارعها بينما نغرق في صمتنا، فذلك ليس مجرد تقصير، بل خيانة للذاكرة، وللمعنى، ولأبسط ما تبقى من نخوة.
القدس اليوم لا تطلب المستحيل، بل تسأل سؤالًا بسيطًا: أما زلتم هناك؟
أما زلتم تعتبرون أن ما يحدث لي هو جزء منكم؟
فإن كان الجواب نعم، فانهضوا… بالكلمة، بالموقف، بالصوت، أو حتى بالدعاء،
لكن لا تتركوا القدس تُذبح بصمت مرّتين: مرّة على يد الاحتلال، ومرّة على يد اللامبالاة.
لأن الأمة التي تترك القدس تسقط، تكون قد وقّعت شهادة موتها بيدها، ودفنت ما تبقى من مجدها في صمت العار.