اطلس:كتب إسماعيل جمعة الريماوي: في تطورٍ ميداني غير مسبوق، تشير المعلومات المتداولة إلى أن الجيش الإسرائيلي دفع بكل ألوية المشاة والمدرعات النظامية إلى قطاع غزة، في خطوة تحمل دلالات عسكرية وسياسية واستراتيجية عميقة. فالقرار لا يتعلق بمجرد تعزيز ميداني أو تبديل وحدات منهكة، بل يشير إلى انتقال الاحتلال نحو مرحلة جديدة في عدوانه، تُقارب حدود المغامرة المفتوحة أكثر مما تعكس تخطيطًا استراتيجيًا متماسكًا. إن زجّ الجيش بكل ثقله البشري والآلي في رقعة صغيرة ومحاصَرة مثل قطاع غزة، هو إشارة قاطعة على أن إسرائيل دخلت مرحلة استخدام “آخر الأوراق”، بعدما فشلت في تحقيق أهدافها عبر القصف الجوي والتوغلات المحدودة وعمليات النخبة.
على المستوى العسكري، يُظهر هذا التطور أن المؤسسة الإسرائيلية باتت ترى أن العمليات الموضعية والتوغلات الجزئية لم تعد كافية لتفكيك بنية المقاومة أو فرض الاستسلام عليها، وهو ما دفعها إلى إشراك القوات النظامية الكاملة، بما فيها التشكيلات الثقيلة المعدّة أساسًا لحرب تقليدية مع جيوش كبرى. ولكن المفارقة أن هذه القوات تجد نفسها الآن تغوص في مستنقع حرب عصابات، وفي بيئة حضرية ومعقدة تم تفخيخها بالكامل، الأمر الذي يجعل هذه القوات عرضة لاستنزاف مضاعف لم تختبره بهذا الحجم منذ عقود.
أما من زاوية الأهداف السياسية، فإن هذا التصعيد العسكري الشامل يرتبط ارتباطًا مباشرًا بحالة التخبّط السياسي داخل القيادة الإسرائيلية، التي باتت تبحث عن “نصر بأي ثمن” قبل أن تفرض عليها المتغيرات الدولية أو الضغوط الأمريكية الدخول في تسوية لا تحقق الحد الأدنى من المكاسب. ويبدو أن إسرائيل تراهن على اجتياح كامل للجنوب، خصوصًا في رفح، ليس فقط بهدف ضرب البنية التحتية للمقاومة، بل أيضًا تمهيدًا لتفريغ المناطق السكنية بالقوة، وخلق حالة نزوح جماعي تسهّل تنفيذ مشروع التهجير القسري نحو سيناء أو أي وجهة خارجية، بما يحقق أحد الأهداف البنيوية للحرب وهو تفكيك غزة ديموغرافيًا وكسر صمودها السكاني قبل العسكري.
كما لا يمكن إغفال البُعد الداخلي لهذا القرار، إذ تحاول حكومة نتنياهو من خلال هذا التصعيد امتصاص الغضب الشعبي الإسرائيلي المتفاقم جرّاء طول أمد الحرب، واستمرار العمليات النوعية للمقاومة، والفشل الذريع في تحقيق وعود “القضاء على حماس” أو “إعادة الأسرى”. فإظهار الجيش بكامل قوته في الميدان قد يُسهم مؤقتًا في ترميم صورة الردع المهشّمة، ولو على حساب المزيد من الدم الفلسطيني، والمزيد من الانكشاف الاستراتيجي.
إقليميًا، يحمل هذا الحشد رسالة مزدوجة؛ من جهة هو تهديد لمحور المقاومة بأن إسرائيل ما زالت قادرة على فتح جبهات واسعة، ومن جهة أخرى هو رسالة ضعف ضمنية، إذ أن الجيش الذي يضطر إلى استخدام كامل قواه في ميدان واحد، يعلن عمليًا عن محدودية قدرته على خوض حرب متعددة الجبهات، وهذا ما يدركه خصوم إسرائيل جيدًا.
إن إدخال كل ألوية الجيش النظامي إلى غزة لا يمكن فهمه كخطوة نحو الحسم، بل كمحاولة يائسة لخلق نصر اصطناعي يغطي على الهزيمة الاستراتيجية المتحققة، وهو ما قد يدفع إسرائيل إلى مزيد من التهور، لكنّه في الوقت نفسه يعجّل بانكشافها الكامل أمام الداخل والخارج، وقد يكون هذا التصعيد علامة النهاية لمرحلة الاحتلال المستقرة وبداية مرحلة الانفجار الكبير.
وفي هذا السياق، تسرّبت معلومات تفيد بأن إسرائيل، وبعد زجّها بكامل قوات الاحتياط، تسعى إلى تقسيم قطاع غزة إلى خمس مناطق عمليات رئيسية، تُدار ميدانيًا بشكل منفصل، في محاولة لتفكيك النسيج الجغرافي والديموغرافي للمجتمع الغزّي. هذا التقسيم ليس مجرد تدبير عسكري لتسهيل الانتشار، بل يحمل في جوهره بُعدًا استراتيجيًا يرتبط بمشروع الإحلال والاقتلاع طويل الأمد، إذ يسعى إلى تقليص قدرة المقاومة على التحرك بين المناطق، وخلق واقع يسهّل عملية التهجير القسري نحو الجنوب. فمع تكثيف القصف وقطع الإمدادات وتجميع السكان في جيوب مغلقة، يصبح التهجير نحو رفح خيارًا “اضطراريًا” يُفرض على مئات الآلاف تحت ضغط الموت والجوع، في مشهد يُعيد إلى الأذهان سيناريوهات النكبة الأولى، ولكن بأساليب أكثر تدرجًا ودهاءً. إن هذا التقسيم يندرج ضمن خطة منهجية لإنتاج واقع جديد على الأرض، يكون بمثابة مقدمة لنزع غزة من معادلة الصراع، أو على الأقل نزع سكانها منها.
إن هذا الحشد العسكري الكامل، وهذه الوحشية المنفلتة من عقالها، ليست سوى امتداد مباشر للمشروع الصهيوني الذي قام منذ بدايته على الإزاحة والإبادة والاقتلاع. وما نشهده اليوم في غزة ليس حربًا عسكرية بقدر ما هو فصل جديد من النكبة، تُكتب هذه المرة تحت وابل القنابل الذكية وبجنازير المدرعات الثقيلة. فالاحتلال لا يسعى فقط إلى قتل الإنسان الفلسطيني، بل إلى اجتثاث وجوده وذاكرته وحضوره من الجغرافيا والتاريخ، في محاولة مستميتة لإغلاق صفحة المقاومة إلى الأبد. لكن ما لا يدركه هذا الكيان، هو أن كل دبابة تدخل غزة، وكل منزل يُقصف، وكل عائلة تُشرَّد، لا تُنتج نهاية، بل تُشعل بدايات جديدة، وتُراكم نارًا تحت الرماد لن تنطفئ، لأن غزة — بكل حصارها ودمها ودمارها — ما زالت تلد المعنى، وتعيد تعريف الصمود، وتصوغ من حطامها مستقبلًا لا مكان فيه لكيان يقوم على الدم والنار والغياب القسري للآخر.