اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: في الساعات الأخيرة، كشفت القناة 12 الإسرائيلية أن بنيامين نتنياهو طلب خلال اجتماع أمني حساس إعداد خطة لإخلاء سكان غزة نحو الجنوب، على أن تكون الخطة جاهزة قبل عودته من واشنطن ، في المقابل ورد أن رئيس أركان جيش الاحتلال الإسرائيلي قد عارض الخطة بشدة، محذرًا من فقدان السيطرة على الأرض في حال تنفيذها ،هذا التباين ليس تفصيلًا عابرًا، بل هو مؤشر عميق على التصدعات داخل بنية القرار الإسرائيلي، وعلى حجم الورطة التي أوقعت حكومة نتنياهو نفسها فيها بعد إحدى وعشرين شهرًا من العدوان المتواصل على غزة.
طلب نتنياهو ليس جديدًا في جوهره ، فهو امتداد لخطة مدروسة، سعت إليها حكومات الاحتلال المتعاقبة منذ نكبة 1948، وتحديدًا في التعامل مع قطاع غزة، حيث شكل التهجير الجماعي أحد الأحلام الإسرائيلية المزمنة. الجديد هو توقيت الطلب وسياقه: فالحديث لم يعد عن نوايا مضمرة أو أوراق سرية، بل عن توجيه رسمي لإعداد خطة نقل جماعي للسكان، تُعرض على المستوى الأمني والعسكري، وتُربط مباشرة بزيارته إلى واشنطن، ما يشير إلى محاولة إضفاء طابع “دولي” أو “توافقي” على المشروع التهجيري، تمهيدًا لفرضه كأمر واقع بحجة “الوضع الامني والإنساني”.
لكن المفارقة الأكبر تكمن في موقف رئيس الأركان، الذي رفض الخطة ليس بدافع إنساني أو أخلاقي بطبيعة الحال، وإنما بدافع القلق من التداعيات الأمنية والقدرة على السيطرة ،هذا التحذير يكشف أن الجيش الإسرائيلي، رغم كل أدواته، بات يدرك أن غزة لم تعد ساحة قابلة للإخضاع الكلي، وأن التلاعب بجغرافيا السكان في ظل واقع متفجر، قد يفتح أبوابًا لا يمكن إغلاقها، فالمقاومة ما زالت تقاتل، والجبهة الجنوبية مفتوحة على كل الاحتمالات .
إن تعارض التوجهات بين القيادة السياسية والعسكرية في إسرائيل، لا يعني اختلافًا في الأهداف، وإنما في الوسائل والتوقيت والتكلفة ، نتنياهو وحكومته اليمينية يسابقون الزمن لتنفيذ مشروعهم التوراتي القديم: غزة بلا فلسطينيين. بينما يرى قادة المؤسسة الأمنية أن الثمن سيكون انهيارًا شاملًا في الجبهة، وربما مواجهة إقليمية أو فوضى لا يمكن تطويقها في سيناء والحدود المصرية ، وهذه ليست المرة الأولى التي يُظهر فيها جيش الاحتلال نوعًا من “الواقعية التكتيكية”، لكنه هذه المرة يواجه حالة استعصاء غير مسبوقة: حرب بلا نصر، ومقاومة لا تُهزم، وسكان لا يرحلون.
خطة التهجير، سواء طُبقت جزئيًا أو أُجّلت مرحليًا، يجب أن تُقرأ في سياق أوسع: إنها ليست فقط جزءًا من العدوان على غزة، بل جزء من الرؤية الصهيونية لإعادة رسم الخريطة السكانية للمنطقة، فجنوب القطاع بات المساحة المتبقية التي تُراهن إسرائيل على تفريغها تدريجيًا، عبر القصف، التجويع، قطع المساعدات، وتدمير البنى التحتية، كي يتحول الناس من “باقين رغم الجراح” إلى “راحلين بلا خيار” ، لذلك فإن صمود السكان في الجنوب هو اليوم رأس الحربة في معركة إفشال المشروع التهجيري، بل إنه يشكل خط الدفاع الأخير عن هوية القضية الفلسطينية.
أما من جهة أخرى، فإن هذا الانكشاف في بنية القرار الإسرائيلي، يُعطي إشارة واضحة للفاعلين الدوليين أن الاحتلال يعيش أزمة داخلية حقيقية: انقسام في الرؤية، ارتباك في التخطيط، وتخبط في الميدان ، فحكومة نتنياهو لم تعد تملك سوى خيار المجازفة، بينما تدرك المؤسسة العسكرية أن المغامرة بالذهاب إلى أقصى اليمين قد تعني انهيار السيطرة على كامل القطاع، وربما على الجبهة الداخلية.
لقد تجاوزت غزة كل معايير الجغرافيا والسياسة، وأعادت تعريف معادلة الاحتلال والمقاومة ، فحين يجتمع الطغيان السياسي والهوس العقائدي مع العجز العسكري، تولد خطط كهذه التي يسعى نتنياهو لفرضها على أنقاض الناس ، لكنها لن تمر،فجنوب غزة الذي ظنوه الخاصرة الرخوة، بات ساحة اختبار للضمير الإنساني العالمي، ومحرابًا لصمود سيُدرّس في الأكاديميات العسكرية والسياسية على السواء.
من هنا من رفح المحاصرة، تتكسر أوهام الإخضاع، ويُهزم مشروع التهجير، لا بقرارات دولية، بل ببطون جائعة لا تنحني، وبعيون دامعة لا ترتد إلى الوراء، وبإرادة شعب قرر أن يكون شوكة في حلق الغزاة حتى الرمق الأخير