في الأجزاء الثلاثة السابقة من هذه السلسلة، تتبعنا صعود منظمة التحرير الفلسطينية منذ تأسيسها عام 1964، ثم تحوّلها بعد عام 1969 إلى إطار تحرري تقوده الفصائل المسلحة، وصولًا إلى نيلها الاعتراف العربي والدولي ممثلًا شرعيًا ووحيدًا للشعب الفلسطيني عام 1974، وتحوّلها إلى كيان سياسي جامع ووطن معنوي للفلسطينيين في المنافي.
في هذا الجزء، نسلّط الضوء على مرحلة الانكماش التي بدأت مع توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، وما رافقها من تراجع في دور المنظمة، وصعود السلطة الوطنية الفلسطينية، وتفاقم الانقسام السياسي والتمثيلي الذي أصاب المشروع الوطني.
الانكماش المؤسسي بعد أوسلو وتحوّل مركز القرار
بعد توقيع اتفاق أوسلو عام 1993، أنشأت منظمة التحرير الفلسطينية “السلطة الوطنية الفلسطينية” كجهاز إداري مؤقت لإدارة شؤون الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، وفق اتفاق مرحلي يُفترض أن يقود إلى تسوية نهائية. كان يُفترض أن تبقى السلطة أداة تنفيذية تابعة للمنظمة، دون أن تمس مكانتها التمثيلية الشاملة.
غير أن السلطة تحوّلت تدريجيًا إلى مركز القرار السياسي، وبدأ يُنظر إليها – محليًا ودوليًا – بوصفها الممثل الفعلي للفلسطينيين، رغم أن ولايتها القانونية تقتصر على الأرض المحتلة. وأسهمت الانتخابات التشريعية عام 1996 في تكريس هذا التحول، إذ تعامل المجتمع الدولي مع المجلس التشريعي كبرلمان فلسطيني، بينما تراجع دور المجلس الوطني الذي يمثل الكل الفلسطيني.
تزايد هذا التراجع مع إنشاء حكومة بوزارات كاملة الصلاحيات، بات وزراؤها يمثلون فلسطين في المؤتمرات الدولية، فيما تراجعت المنظمة عن أداء دورها الخارجي. وتكرّس التداخل حين تولّى وزير خارجية السلطة تمثيل فلسطين في الأمم المتحدة، رغم أن التمثيل السياسي يفترض أن يبقى من صلاحيات المنظمة.
في الوقت ذاته، شهدت مؤسسات ودوائر منظمة التحرير تعطلًا واضحًا في مهامها وفعالياتها، إذ جُمّدت أنشطة وحداتها الحيوية وغالبًا ما كانت تستدعى هذه الدوائر للقيام بإجراءات شكلية أو مناسبات رمزية، دون أن تمارس أدوارها السياسية والمجتمعية كما كانت في السابق.
وامتد هذا التراجع المؤسسي إلى المجلس الوطني الفلسطيني نفسه، الذي يُعدّ الهيئة التشريعية العليا لمنظمة التحرير. فمنذ اتفاق أوسلو لم يُعقد المجلس سوى مرتين فقط، في عامي 1996 و2018، رغم المتغيرات الكبيرة التي عصفت بالقضية الفلسطينية. وبدلًا من تفعيل دوره، جرى تفويض صلاحياته إلى المجلس المركزي، في خطوة تخالف النظام الأساسي للمنظمة، الذي ينص على أن المجلس الوطني هو المرجعية العليا ولا يجوز التنازل عن صلاحياته. وقد أدى ذلك إلى تهميش وظيفته التشريعية، وتعطيل التمثيل الوطني الشامل، وتقليص المشاركة السياسية الفلسطينية إلى دائرة ضيقة مغلقة.
يُشار هنا إلى أن انعقاد المجلس الوطني الفلسطيني في عام 1996 تمّ في ظروف استثنائية، بطلب مباشر من الولايات المتحدة الأميركية، وبحضور الرئيس بيل كلينتون، لتنفيذ استحقاق سياسي ضمن اتفاق أوسلو، يتمثل في تعديل بنود من الميثاق الوطني الفلسطيني. وقد أثار هذا الانعقاد الكثير من الجدل حول شرعيته، من حيث تشكيلته، وجدول أعماله، والإجراءات النظامية التي اتُّبعت لعقده، ومدى توافقها مع اللوائح الداخلية للمنظمة. وهو موضوع يستحق دراسة خاصة لاحقًا.
بعد فوز حركة حماس في الانتخابات التشريعية عام 2006، شعرت قيادة منظمة التحرير بتهديد مباشر لمكانتها ودورها الوطني، ما دفعها إلى تسليم السلطة عمليًا إلى حماس، لكنها في الوقت نفسه شرعت في تفعيل بعض دوائر المنظمة، خصوصًا الدائرة السياسية، بهدف الحفاظ على التمثيل الدولي والوطني لمنظمة التحرير، ومنع حماس من السيطرة الكاملة على تمثيل الشعب الفلسطيني. وفي عام 2018، عُقد المجلس الوطني مجددًا وسط تصاعد المخاوف من تراجع مكانة السلطة الوطنية، في محاولة لإبقاء المنظمة كإطار سياسي جامع واحتياطي أمام تحديات الانقسام والمشروع الوطني.
بهذا الشكل، استمر تسيير الوضع السياسي والمفاوضات والعلاقات الدولية من خلال مؤسسات السلطة الوطنية، بينما أصبحت منظمة التحرير الفلسطينية كيانًا شكليًا، محصورًا في مبنى في رام الله، بعد أن كانت الإطار الوطني الجامع للفلسطينيين وقائدة مشروعهم التحرري.
صعود القوى الإسلامية المسلحة وتحدي شرعية التمثيل
منذ أواخر الثمانينيات، شهدت الساحة الفلسطينية تحولات عميقة، برزت خلالها قوى فاعلة خارج إطار منظمة التحرير، وعلى رأسها حركتا حماس والجهاد الإسلامي. وقد نشأت هذه القوى في سياق مراجعة نقدية لتجربة المنظمة، ورفض لمسار التسوية السياسية، وتأكيد على خيار المقاومة المسلحة.
شكّلت حركة حماس أبرز تلك القوى، إذ تأسست على أرضية معارضة لخطاب المنظمة، ورفض لاعترافها بـ”إسرائيل”. ومع تطور تجربتها السياسية، خاضت الحركة الانتخابات التشريعية عام 2006، وحصلت على الأغلبية، ثم شكّلت الحكومة، ما أدى إلى صدام سياسي مع حركة فتح، وانتهى بانقسام جغرافي عام 2007 بين الضفة الغربية وقطاع غزة.
ورغم الانقسام، تطوّر خطاب حماس، وبلغ ذروته في وثيقتها السياسية عام 2017، التي أعلنت فيها قبولها بمنظمة التحرير ممثلًا شرعيًا للشعب الفلسطيني، مع الدعوة إلى إصلاحها على أسس ديمقراطية تشاركية.
ورغم هذا التحوّل، بقيت حماس، ومعها قوى أخرى، خارج المنظمة. ويعود ذلك جزئيًا إلى حساباتها التنظيمية، لكن السبب الجوهري هو غياب الإرادة السياسية لدى قيادة المنظمة لتجديد بنيتها التمثيلية، ورفضها الانفتاح على تعددية سياسية واسعة باتت حقيقة قائمة في المجتمع الفلسطيني.
وقد كرّس هذا الانقسام السياسي والتمثيلي حالة من الشلل الوطني، وأضعف شرعية منظمة التحرير، وأفقد المشروع الوطني القدرة على تمثيل الشعب الفلسطيني بكل مكوناته في الداخل والشتات.
أزمة المصالحة وبنية التمثيل المنقوص
منذ اندلاع الانقسام الفلسطيني عام 2007، تكررت محاولات إعادة بناء منظمة التحرير وتحقيق الوحدة الوطنية، حيث وثّق بعض النشطاء والمراقبين أكثر من ثلاثة وعشرين اتفاقًا وتفاهمًا بين الفصائل المختلفة، من أبرزها: وثيقة الوفاق الوطني، اتفاق مكة، اتفاق القاهرة، إعلان الدوحة، لقاءات بيروت، تفاهمات إسطنبول، واتفاقا الجزائر (2022) وبكين (2024).
لكن رغم كثافة هذه المبادرات، لم يُنفّذ أي منها فعليًا، والسبب الجوهري أن معظمها جرى ضمن إطار “مصالحة ثنائية” بين حركتي فتح وحماس واحيانا بعض الفصائل الأخرى، مع تغييب شبه كامل للمكونات المجتمعية الفلسطينية الأخرى، مثل النقابات والاتحادات والجاليات واللاجئين والمستقلين، الذين يُفترض أن يشكّلوا جوهر أي تمثيل وطني حقيقي.
وهكذا، تحوّلت “المصالحة” إلى فعل شكلي يُتداول في الخطابات السياسية أكثر مما يُمارَس في الواقع، وبات الحديث عن الوحدة الوطنية مرهونًا بإرادة فصيلين، بدلًا من أن ينبثق من مشروع سياسي جامع يعيد بناء النظام التمثيلي الفلسطيني على أسس ديمقراطية وشراكة وطنية واسعة.
تشكّل هذه الثغرة نقطة الانطلاق لمرحلة جديدة من التفكير السياسي، حيث يطرح السؤال المركزي: كيف نعيد بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية تشاركية تعبّر بحق عن كل مكونات الشعب الفلسطيني، داخل الوطن وفي الشتات؟