يراهن العدو عبر وكيله الأميركي على تثمير «الإنجازات» العسكرية التي حقّقها في الأيام الأولى للحرب التي شنّها على المقاومة ولبنان، عبر طروحات سياسية وصيغة حلول تحاكي المطالب والطموحات الإسرائيلية في الساحة اللبنانية. ومن الطبيعي أن يسارع المسؤولون الأميركيون لتوظيف هذه الوقائع بعدما أدركوا سرعة استعادة حزب الله المبادرة العسكرية، وبروز حقيقة تماسكه التنظيمي والإداري وانعكاسها على المستوى العملياتي.
يشي ذلك بأن التقدير في تل أبيب وواشنطن هو أنهما ستواجهان صعوبات أشدّ في المرحلة المقبلة بفعل تعدّل معادلات الميدان الذي يتميّز بمواجهة صلبة للقوات الإسرائيلية التي تحاول التوغل في الأراضي اللبنانية بعدما تجاوزت مرحلة الاستطلاع بالنار ومحاولة السيطرة على تلال ونقاط حاكمة بالقرب من الحدود اللبنانية – الفلسطينية المحتلة.
يؤكد الأداء السياسي حقيقة أن تل أبيب وواشنطن لا تزالان تكرران خطأ الخلط بين الوقائع التي تنجحان في تحقيقها أو فرضها، وتقدير مفاعيلها على المقاومة وقدراتها وجمهورها وخياراتها، إذ إن هناك فرقاً بين التضحيات التي يقدّمها طرف ما بفعل ضربات العدو ومفاعيلها التي قد تؤدي إلى إخضاع الطرف المُستهدف أو تصليب مواقفه وتحفيز خياراته.
بعبارة أخرى، لا يعني نجاح هذه الاعتداءات من الناحية التكتيكية العسكرية أنها ستحقق بالضرورة أهدافها الاستراتيجية. ولم يطل الوقت حتى بدأت تتكشّف هذه الحقيقة، حيث فوجئ المراقبون المختصون بالأداء القتالي لمقاتلي حزب الله بعد الضربات التي تلقاّها، كما لفت إلى ذلك تقرير سي أن أن (12/10/2024). أضف إلى ذلك التصور الذي بدأ يتشكل في كيان العدو، وهو أن «النجاحات المثيرة للانطباع التي تحققت في الأسابيع الأخيرة في حرب الشمال» أدّت إلى «نشوة مُبالغ بها لدى المستوى السياسي، وإلى أن يعتقد كثيرون خطأً بأن حزب الله قد هُزم. لكنّ الحقيقة أنه لم ينكسر» («يسرائيل هيوم» 10/10/2024).
ما تقدّم، لم يكن ليتبلور من دون الاستناد إلى عناصر قوة رئيسية بدأت تتجلّى بشكل صريح لدى العدو والصديق، ومن لا يزال يعاند لن يطول الوقت حتى يلتحق بهما خائباً. هذه العناصر تشكّل العامل الرئيسي في منع العدو الإسرائيلي، ومن ورائه والأميركي، من تحقيق أهدافه الاستراتيجية في لبنان والمنطقة. فإلى جانب صمود حزب الله وثباته وتصميمه، الذي شكّل كل ذلك مفاجأة جدية للعدو في أعقاب سلسلة الضربات القاسية التي تلقاّها الحزب، فإن عودة التحكم والسيطرة الكاملة بين القيادة العليا والميدان، شكّلت مؤشراً كاشفاً عن عمق التعافي وسرعته. ومن المؤكد أن التطورات الميدانية التي تتسارع من يوم إلى آخر، ستكون محور اهتمام ومراقبة قيادة العدو ودراسة رسائلها ومؤشراتها إزاء آفاق هذه المعركة. وأهم عناصر هذه القوة التي تشكل ضغطا تصاعدياً هو الاستهداف الصاروخي والمواجهة البرية على الحدود اللبنانية – الفلسطينية.
في ما يتعلق بالعامل الأول، الاستهداف الصاروخي، لم يعد الحديث عن فشل الحملة الجوية في ضرب جوهر القدرات الاستراتيجية لحزب الله مجرد تخمين أو تقدير، وإنما بدأت انعكاساته العملية بالبروز. والأهم أن المفهوم الذي أخذ يتبلور في وعي العدو أنه كلما امتد الوقت تصاعد الاستهداف الصاروخي، عمقاً واتساعاً وكثافةً ووتيرة. بتعبير آخر، لا رهان على الوقت لمصلحة العدو، خصوصاً أن حزب الله يعتمد سياسة التدرج التصاعدي. ويعني ذلك، أيضاً، أن العدو أصبح أكثر إدراكاً بأن حزب الله لم يستنفد حتى الآن أوراق القوة التي يملكها في هذا العنوان (الصواريخ)، انطلاقاً من أن حزب الله أثبت قدرته على تحويل المناطق الأكثر تأثيراً على العدو (الوسط وتل أبيب) إلى ساحة استهداف مشابهة لحيفا ومحيطها… وهو سيناريو لا يستطيع العدو التكيّف معه لفترة طويلة. في السياق نفسه، يرتّب تعطيل الحياة في الجبهة الداخلية وتحويلها إلى منطقة غير آمنة نتائج وتداعيات اقتصادية ومجتمعية. وخطورة هذا الأمر أيضاً أنه ينبع من منظور إسرائيلي – أميركي أن هذا العامل سيكون حاضراً في رسم مستقبل الحرب وبلورة ملامح أي صيغة تسوية في نهاية الحرب.
رغم أن العدو يستخدم التوغل البري، كأداة ضغط على المقاومة ولبنان بهدف فرض شروطه في الجنوب، وأيضاً، كجزء من محاولة إعادة إنتاج المعادلة السياسية الداخلية بما يمكن من تنفيذ المخطط الأميركي، إلا أن الواقع هو أن أي توغل بري جدّي في الأراضي اللبنانية سيتحوّل من فرصة للعدو إلى تهديد له، وإلى أداة ضغط إضافية على الواقع الإسرائيلي، قيادة ومؤسسات وجمهوراً.
في الخلاصة، يمكن القول إن العدو عندما نفّذ الحرب التي توعّد بها وأعدّ لها منذ نحو 18 عاماً، كان يستند إلى تقدير مفاده أن نوعية الضربات وحجمها كفيلان بإخضاع حزب الله وإرباك قواته وإضعاف قدراته، وتمهيد الطريق لإخضاع لبنان واستكمال الهيمنة الأميركية على قراره السياسي والإداري، وأيضاً لإحداث تغيير جذري لمصلحتها في المعادلة الإقليمية. إلا أن الواقع الذي يتبلور فعلياً هو أن لبنان ليس ضعيفاً في ظل صمود مقاومته والتفاف بيئتها حولها، وليس في موقع من يتلقّى الإملاءات ويقبل بما يقدّمه الأميركي باسم الإسرائيلي، وأنه بعدما قدَّم هذا السيل من التضحيات، لن يقبل بتضييع دماء الشهداء. وهو أمر سيزداد وضوحاً مع تصاعد ضربات المقاومين على الجبهة الجنوبية وفي العمق الإسرائيلي. وأهمية كل ذلك أنه سيُعزز يأس العدو من إمكانية تحقيق أهدافه الذي سيقترن مع تواصل وتصاعد الأثمان التي يدفعها، وفي الختام ستكون لذلك تداعياته الإيجابية (لمصلحة لبنان والمقاومة) على خيارات العدو الاستراتيجية.
صحيفة الاخبار اللبنانية