شوكت الراميني يكتب : “العرب وترامب: من الشعارات إلى بناء الدولة”

اطلس:لم تنتصرْ إسرائيلُ في حربِ السابعِ من أكتوبرَ (طوفانُ الأقصى)، ولم تنهزمِ المقاومةُ الفلسطينيةُ، ولكنها حوَّلتْ حلمَ إقامةِ الدولةِ وتقريرِ المصيرِ إلى واقعٍ ممكنٍ، وحفرتْ في ذاكرةِ الأعداءِ والأصدقاءِ أنَّ السابعَ من أكتوبرَ هو يومُ الاستقلالِ الوطنيِّ مهما امتدَّ الزمنُ، وإنَّ ملامحَ نِهاياتِ هذه الملحمةِ التاريخيةِ الكبرى لشَعبِنا، هي كذلك بدايةٌ لاستدارةٍ صهيوأمريكيةٍ لتحقيقِ نتائج مختلفةٍ وبوسائلَ مركَّبةٍ، منها زحزحةِ مآلِ الرَّدعِ الاستراتيجيِّ الإسرائيليِّ المتهاوي إلى نقطةٍ راجحةٍ جديدةٍ، لأنَّ هذا الرَّدعَ هو أساسُ الوجودِ الإسرائيليِّ كدولةٍ، والرُّكنُ الأساسيُّ في تدفُّقِ إكسيرِ حياتِها.

فجاءتْ تصريحاتُ ترامبَ من أجلِ ترحيلِ فلسطينيِّي قطاعِ غزةَ إلى مصرَ والأردنِّ، وصولًا إلى تغريداتٍ إسرائيليةٍ بإنشاءِ دولةٍ لهم في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ، كتعبيرٍ عن مأزقِ المشروعِ الصهيونيِّ ورعاتِه عالميًّا، والذي ظهره السابعُ من أكتوبرَ .
ولتحقيقِ أهدفِ الاستدارةِ تلك، أملًا في إحداثِ تغيُّرٍ دراماتيكيٍّ في نتائجِ الحربِ الدفاعيةِ الاعتراضيةِ الفلسطينيةِ المقاومةِ لمخططاتِ اليمينِ الدِّينيِّ الفاشيِّ في إسرائيلَ، والمتَّجهةِ لما يُسمَّى الحلَّ النهائيَّ للقضيةِ الفلسطينيةِ، المُستخرَجِ من منطقِ الحلِّ النهائيِّ النازيِّ للمسألةِ اليهوديةِ (Juden Frage)!!! والتهجير هنا يعكس خلفية هذا التوجُّهَ النازي تمامًا، والمعتمد على مزيجٍ من الدعمِ الأمريكيِّ التقليديِّ لإسرائيلَ، ورؤيةِ ترامبَ وفريقِه للشرقِ الأوسطِ، والتأثيراتِ المحليةِ الأمريكيةِ الداخليةِ، والسياقِ الإقليميِّ والدوليِّ المتغيِّرِ، إضافةً إلى مجموعةٍ من العواملِ المتشابكةِ. فهذه الخارطةُ من العواملِ، وعلى رأسِها القراءةُ الاستراتيجيةُ العميقةُ لحربِ السابعِ من أكتوبرَ من وجهةِ النظرِ الإسرائيليةِ الأمريكيةِ، كلُّ ذلك دفعَ إسرائيلَ والولاياتِ المتحدةَ إلى مسابقةِ الزمنِ في البحثِ عن حلولٍ جذريةٍ لقلبِ نتائج الحرب، فكان الترحيلِ للفلسطينيينَ وعلى حسابِ أيِّ اعتباراتٍ أو تصادماتٍ مع القانونِ الدوليِّ وحقوقِ الإنسانِ أو التحالفاتِ التقليديةِ بمثابة الحل السحري ، لتشكيله عنوان مختزل للانتصار النهائيِّ التاريخيِّ للحركةِ الصهيونيةِ على الفلسطينيينَ. وأُعلنَ عن هذا التوجُّهِ عبر الرئيس ترمب ، رغمَ أنَّ الرؤيةَ الإسرائيليةَ العميقةَ ترفضُ إنشاءَ كُتَلٍ فلسطينيةٍ وازنةٍ في دولِ المحيطِ، وتعملُ على تفكيكِها باستمرارٍ، انظرْ لبنانَ، سوريا.. إلخ، فالحلول المقدَّمةُ تكتيكيةُ الطابعِ ومتدحرجةٌ، ويأتي هنا الاقتراح المرتجف لإقامةِ دولةٍ فلسطينيةٍ في المملكةِ العربيةِ السعوديةِ في ذاتِ السياقِ المتدحرجِ، وتنبيهًا للإدارةِ الأمريكيةِ بالأساس، وتعبيراً عن الضياع الاسترتيجي.
ولكَيْ نفهمَ التحركَ الحاليَّ ودوافعَه، والقدرةَ على مواجهتِه، لا بدَّ من الإشارةِ أوَّلًا إلى سلسلةٍ من المكتسباتِ الاستراتيجيةِ والتكتيكيةِ المهمةِ التي أثمرَها طوفانُ الأقصى رغمَ الثمنِ الباهظِ بالأرواحِ، والجَرحى، والعذاباتِ والآلامِ، وتقديمِ مقوِّماتِ حياةِ شَعبِنا المادِّيَّةِ الحياتيَّةِ، كلِّ ذلكَ ثمناً نبيلاً في المواجهةِ الوجوديةِ. ونعرِضُ هنا أبرزَ تلكَ المكتسباتِ:
تعريةُ وإسقاطُ الروايةِ الصهيونيةِ ووضعُها موضعَ إعادةِ القراءةِ والمراجعةِ في الأوساطِ الشعبيَّةِ العالميَّةِ، وأوساطِ المفكِّرينَ المُنصفينَ.
تحييدُ قوانينِ معاداةِ الساميةِ وتهميشُها إلى حدودٍ كبيرةٍ، باعتبارِها سلاحًا ردعيًّا هجوميًّا لصالحِ الروايةِ الصهيونيةِ، وأداةَ تكميمٍ فعَّالةً للشعوبِ الحرَّةِ.
كشفُ جوهرِ الصهيونيةِ كحركةٍ استعماريةٍ فاشيةٍ.
إظهارُ امتداداتِ الحركةِ الصهيونيةِ وتحالفاتِها وتعبيراتِها العالمية.
نقلُ القضيةِ الفلسطينيةِ إلى قضيةِ تحرُّرٍ عالميٍّ.
تحويلُ دولةِ الاحتلالِ إلى دولةٍ مارقةٍ ومطاردةٍ من قبلِ الضميرِ العالميِّ والقانونِ الدوليِّ والدوليِّ الإنسانيِّ، إذْ أصبحَ التعاملُ أو الانتماءُ إليها عارًا أخلاقيًّا.
توجيهُ ضربةٍ استباقية قاضيةٍ لمشروعِ التهجيرِ، عبرَ إعلاءِ قيمةِ البقاءِ في الوطنِ، وتجذيرِ وجودِهم في أرضِهم ورفعِ مستوى الاستعدادِ للصمودِ والانتصارِ.
رفعُ مستوى الإيمانِ بحتميَّةِ وإمكانيةِ الانتصارِ.
إنتاجُ حالةٍ ثوريَّةٍ ممتدَّةٍ مكانيًّا وزمانيًّا، فاقتْ حالةَ انطلاقةِ الثورةِ المعاصرةِ عامَ 1965م، وسيشاهدُ العالمُ تجلِّياتِ ذلك تباعًا.
الإسهامُ في إعادةِ رسمِ خريطةِ التحالفاتِ وإعادةُ رسمِ الأولوياتِ في المنطقةِ والعالمِ، وتوسعةُ خريطةِ التحالفاتِ والتضامنِ مع الحقِّ الفلسطينيِّ، معيدًا تشكيلَ هذه الخرائطِ.
تجذيرُ صمودِ الضفةِ الغربيةِ وإعلاءُ قيمةِ البقاءِ والتشبث في الأرضِ عبرَ قوَّةِ المثالِ النضاليِّ، في مواجهةِ المخطَّطِ الإسرائيليِّ الرئيسيِّ فيها، المتمثل في توسيعُ الضمِّ والتهويدِ للمسجدِ الأقصى والتهجيرِ، ورغمَ كل ما تضمرُهُ إسرائيلُ من مخططاتٍ، ومن رغبةٍ مسعورةٍ في إعادةِ التوازنِ لمفهومِ الانتصارِ التامِّ في تلكَ المنطقةِ الحيويَّةِ.
إعادةُ الاعتبارِ لأهمِّيَّةِ النضالِ الأمميِّ المناهضِ لإسرائيلَ، وتهيئةُ أرضيةِ ذلكَ عمليًّا، رغمَ المحاولاتِ الاستباقيَّةِ التي ستجريها بعضُ الدولِ لكبحِ تعمُّقِ ذلكَ على الساحةِ الدوليَّةِ، ولكبحِ جماحِ توسُّعِ المدى من خلالِ إعادةِ الحمايةِ للروايةِ الإسرائيليَّةِ.
كسرُ مؤامرةِ الصراعِ الطائفيِّ، وإعادةُ اللُّحمةِ الإسلاميَّةِ إلى درجةٍ كبيرةٍ بتوجيهِ ضربةٍ قاضيةٍ لجهدٍ أمنيٍّ استمرَّ لعقودٍ.
الكشفُ عن إمكاناتِ الأُمَّةِ، وقدرتِها على تجسيرِ الهوَّةِ العسكريَّةِ، واستنباطُ معادلاتٍ تعويضيَّةٍ رديفةٍ، والكشفُ أيضًا عن القدرةِ على تجسيرِ الهوَّةِ التقنيَّةِ والاستثمارِ في الحربِ الذكيَّةِ.
ترسيخُ حقيقةٍ جديدةٍ في الذِّهنِ الإسرائيليِّ العميقِ: مفادُها أنَّ سياسةَ الحربِ لم تَعُدْ عنصرًا حاسمًا مُفْرَغًا منه، حيث فقدت قيمتَها إلى حُدودٍ كبيرةٍ، رغم كُلِّ البروباغندا، ممَّا سيَدْفعُ الإسرائيليين إلى إعادةِ التفكيرِ في ذلك تحت ظروفٍ متغيِّرةٍ متتابعةٍ تَلوحُ في أُفُقِ هذه المواجهة، والتقدُّمِ لحُلولٍ واقعيةٍ بدلًا من سياسةِ العنفِ التي تعملُ بشكلٍ عكسيٍّ، وتَأْكُلُ مشروعَهم وأُفُقَه، وتضعُهم في مواجهةِ انفجاراتٍ ومواجهاتٍ أبديَّةٍ متتابعةٍ في المنطقةِ، وتوسُّعِ ذلك واحتدامِه وانتشارِه. وسيَظْهَرُ اليهوديُّ في لحظةٍ ما ضحيةً وأداةً لمشروعٍ صهيونيٍّ استعماريٍّ مُضَلِّلٍ ووَهْميٍّ.
إعادةُ ترتيبِ الأولويَّاتِ لشعوبِ المنطقةِ، وترسيخُ أنَّ إسرائيلَ خطرٌ داهمٌ على تلك الشعوبِ ومصالحِها، وعلى العالمِ، وتعزيزُ أنَّ الإيمانَ بالمقاومةِ الوطنيَّةِ الفلسطينيَّةِ رُكْنٌ أساسيٌّ في أمنِ المنطقةِ، وفي حمايةِ أنظمتِها أيضًا من الابتزازِ، وهو ما سيساعدُ في تغييرِ القراءةِ التقليديَّةِ للأنظمةِ التي تتعاملُ مع المقاومةِ باعتبارِها خطرًا عليها وعلى وجودِها إلى أحدِ أهمِّ عناصرِ استقرارِها.
تصريحاتُ ترامب حولَ التَّهجيرِ والعربِ وشعارِ الدولةِ ودولةٍ للشعارِ:
إنَّنا نأملُ ونَحْلُمُ ونتمنَّى أن تُواجَهَ مُخطَّطاتُ التَّهجيرِ لشعبِنا من قِطاعِ غزَّةَ، ومن الضفَّةِ، ومن كُلِّ عمومِ فلسطينَ التاريخيَّةِ، بمعارضةٍ شديدةٍ من الدولِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، والمجتمعِ الدوليِّ، وكُلِّ شعوبِ وأحرارِ العالمِ، وأن تنتقلَ تلك المعارضةُ إلى مستوى جديدٍ، من الشِّعاراتِ إلى اتخاذِ إجراءاتِ مقاومةٍ حقيقيَّةٍ، والابتعادِ عن المواقفِ الإنشائيَّةِ الوصفيَّةِ للمخاطرِ، وسَيْلِ المطالباتِ المُعَطِّل بها قوَّةَ التَّفعيل والتأثير .
فعلى الدولِ العربيَّةِ أوَّلًا، والإسلاميَّةِ، وشعوبِ العالمِ الحرِّ، أن تُواجِهَ هذه التَّصريحاتِ التي عبَّرَ عنها ترامب، وتَهْزِمَها نهائيًّا بغضِّ النَّظرِ عن قراءاتها المُتعدِّدة، لأسبابٍ هامَّةٍ متنوِّعةٍ، نُصيغُها من داخلِ جدليَّةِ القراءةِ للعقلِ الرَّسميِّ العربيِّ وطريقةِ تفكيرِه، ونُوجِزُها بما يلي:
أوَّلًا: التأثيرُ العامُّ المباشرُ للتصريحاتِ:
1- انتهاكُ الحقوقِ الفلسطينيَّةِ:
هذه الخطَّةُ تتجاهلُ الحقوقَ الأساسيَّةَ للشعبِ الفلسطينيِّ، لا سيَّما حقَّهُم في العودةِ إلى أراضيهم. ويُعَدُّ ذلك انتهاكًا صارخًا لهذا الحقِّ، ويُشكِّلُ محاولةً لإلغاءِ الوجودِ الفلسطينيِّ التَّاريخيِّ في أراضيهم، وهي محاولةٌ للتهرُّبِ من استحقاقاتِ السَّلامِ العادلِ الذي يضمنُ للفلسطينيينَ دولةً مستقلَّةً.
2- المساسُ بالهُويَّةِ الفلسطينيَّةِ:
هذه المبادرةُ تعني محاولةً لإزالةِ جزءٍ من الشعبِ الفلسطينيِّ من هُويَّته التَّاريخيَّةِ والجغرافيَّةِ، وتُؤشِّرُ إلى خطَّةٍ أوسعَ وأشملَ. ففلسطينُ ليست مجرَّدَ أرضٍ، بل هي جزءٌ من هُويَّةِ الفلسطينيينَ (السُّكَّانِ الأصليينَ عبرَ التاريخِ)، والتي تتجسَّدُ في كُلِّ زاويةٍ وقريَةٍ ومدينةٍ. لذلك، يُنظَرُ إلى هذه المبادرةِ على أنَّها مساسٌ بهُويَّةِ الفلسطينيينَ وتاريخِهم العميقِ في هذه الأرضِ، وهي تشريعٌ للتَّوسُّعِ والتهجيرِ وعودةِ الاستعمارِ المُباشرِ على مَدى المعمورةِ.
3- تعزيزُ المشروعِ الاستعماريِّ الإسرائيليِّ:
بموجبِ الخطَّةِ وعمومياتِ بعضِ أجزائها، سيتمُّ تقديمُ الأراضي الفلسطينيَّةِ بصورةٍ غيرِ مباشرةٍ لإسرائيلَ عبرَ تلك السِّياسةِ الالتفافيَّةِ، ممَّا يَضَعُ فلسطينَ التاريخيَّةَ برُمَّتِها تحتَ السَّيطرةِ الإسرائيليَّةِ المباشرةِ، ويُسهمُ في استكمالِ المشروعِ الاستعماريِّ الذي يهدفُ إلى تهويدِ الأراضي الفلسطينيَّةِ وطَرْدِ سكَّانِها الأصليينَ، ومتابعةِ الحُلمِ الصُّهيونيِّ التُّوراتيِّ. ويأتي الطريق الهندي ، وقناة بنغريون ،وغاز غزة ونفطها ، كأحد الحوافز المحركة لحلم تهجير شعبنا في قطاع غزة، ولتحويلها لمنصة للتجارة العالمية خاصة النفط والغاز ،ولإعادة توزيع المياه  العذبة المجرورة على المنطقة.
4- تقويض المفاوضات السلمية:
تتجاهلُ الخُطَّةُ قراراتِ الأممِ المتحدةِ التي تضمنُ حقوقَ الفلسطينيين، وتعزِّزُ الشُّعورَ بأنَّها محاولةٌ لفرضِ واقعٍ جديدٍ على الشَّعبِ الفلسطيني، واستمرارٌ للحربِ بطرقٍ جديدةٍ.
ثانياً: التحدياتُ التي تفرضُها خُطَّةُ التهجيرِ على العربِ وشعوبِهم
1- تهديدُ الاستقرارِ الداخليِّ في الدُّوَلِ العربيَّة.
2- فُقدانُ الدَّعمِ الشَّعبيِّ للأنظمةِ العربيَّة.
3- زيادةُ الانقسامِ بينَ الأنظمةِ العربيَّة.
4- تهديدُ الأمنِ القوميِّ العربيِّ.
وانطلاقًا من هذه التأثيراتِ والتحدياتِ الاستراتيجيَّةِ، فلا بُدَّ من إعادةِ قلبِ الهرمِ على قاعدته، وتفعيلِ خُطَّةٍ عربيَّةٍ إجرائيَّةٍ بقُوَّةِ ضغطٍ ودفعٍ وتحريكٍ استراتيجيٍّ، لعبورِ المنطقةِ من الشعارات إلى بناء الدولة ، استنادًا إلى مجموعةٍ من المؤشِّراتِ والعواملِ المُحفِّزةِ، التي تهيِّئُ الفُرصةَ للاقتحامِ في هذا الاتِّجاه، وتجعلُ منه ممكنًا، إن توفَّرت الإرادةُ، وغابتِ المُقايضاتُ غيرُ المبدئيَّةِ المُهدِرةُ لهذه الإمكانيَّة، والمُعتمدةُ على حلولٍ ترقِيعِيَّةٍ تُسكِّنُ الأزمةَ جزئيًّا، ولا تُعالِجُ جَذرَها النَّازِفَ.
من هذه المؤشِّراتِ والعواملِ: الواقعُ الدَّوليُّ الجديدُ :
في ضوءِ التطوُّراتِ الدوليَّةِ الأخيرةِ والتغيُّراتِ في المواقفِ السياسيَّةِ، أصبحَ من الممكنِ أن يستفيدَ العربُ ويحقِّقوا النَّقلةَ النَّوعيَّةَ المطلوبةَ، ونُشيرُ إلى جزءٍ من تلكَ التَّطوُّراتِ والمتغيِّراتِ:
1- التغيُّراتُ في الواقعِ الدَّوليِّ ومواقفُ القُوى الكُبرى :
شهدَتِ السَّنواتُ الأخيرةُ تغييراتٍ كبيرةً في الواقعِ الدَّوليِّ، بدءًا من الحربِ الرُّوسيَّةِ في أوكرانيا إلى التحدِّياتِ الاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّةِ التي تُواجهُ الغربَ. ورغمَ أنَّ الولاياتِ المُتَّحدةَ الأمريكيَّةَ لا تزالُ القُوَّةَ الكبرى التي تُؤثِّرُ بشكلٍ كبيرٍ في السِّياساتِ الدوليَّةِ، إلَّا أنَّ مواقفَ الدُّوَلِ الأُخرى، مثل روسيا والصين، بدأت تتَّخذُ طابعًا مُختلفًا يعكسُ تحوُّلًا في الدِّيناميكيَّاتِ العالميَّةِ.
وعلى الرَّغمِ من أنَّ روسيا ليست بالضَّرورةِ حليفًا مُباشرًا لفلسطينَ أو العربِ، إلَّا أنَّ موسكو تحاولُ الاستفادةَ من أيِّ فُرصةٍ لزيادةِ نُفوذِها في الشَّرقِ الأوسطِ وإيجادِ بدائلَ لخسارتِها في سوريا، وهي دائمةُ التَّأكيدِ على الحقِّ الفلسطينيِّ في تقريرِ المصيرِ، ويظهرُ ذلكَ في المحافلِ الدَّوليَّةِ واللِّقاءاتِ الثنائيَّةِ.
أمَّا الصِّين، فيُمكنُها أن تلعبَ دورًا في دعمِ مشروعِ حلِّ الدَّولتَينِ من خلالِ التأثيرِ الاقتصاديِّ والسِّياسيِّ على الدُّوَلِ الكُبرى الأُخرى. فعلاقاتُ الصِّينِ مع العالمِ العربيِّ، بالإضافةِ إلى قُدرتِها على توجيهِ بعضِ الضُّغوطِ الاقتصاديَّةِ، قد تمنحُها أوراقَ ضغطٍ على الولاياتِ المُتَّحدةِ.
2- مواقفُ المحكمةِ الدَّوليَّةِ ضدَّ ممارساتِ إسرائيل:
من ناحيةٍ أُخرى، فإنَّ المواقفَ القانونيَّةَ والتَّقاريرَ الدَّوليَّةَ التي تُندِّدُ بممارساتِ إسرائيلَ في الأراضي الفلسطينيَّةِ، بما في ذلك تقاريرُ الأممِ المتَّحدةِ والمحكمةُ الجنائيَّةُ الدَّوليَّةُ، تُقدِّمُ دعمًا للمطالبِ الدَّوليَّةِ من أجلِ إنهاءِ الاحتلالِ الإسرائيليِّ.
3- مواقفُ الدُّوَلِ الغربيَّةِ من التطوُّراتِ الأخيرةِ:
هناك تحوُّلاتٌ في مواقفِ بعضِ الدُّوَلِ الغربيَّةِ من الصِّراعِ الفلسطينيِّ الإسرائيليِّ. فبعضُ الدُّوَلِ الأوروبيَّةِ بدأت تُظهرُ تردُّدًا في دعمِ إسرائيلَ بشكلٍ كاملٍ، خاصَّةً مع استمرارِ ممارساتِ الاستيطانِ الإسرائيليِّ وتوسيعِ الأراضي المُحتلَّةِ في الضِّفَّةِ الغربيَّةِ والتوجُّهِ لضمِّها وإعلانِ الحربِ على المدنيِّينَ العُزَّلِ الخاضعينَ للاحتلالِ.
فعلى سبيلِ المثال، تُظهرُ ألمانيا في بعضِ الأحيانِ مواقفَ مُتوازنةً أكثرَ تجاهَ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ، حينما تشعرُ بنيَّةِ إسرائيلَ نحوَ التَّوسُّعِ، رغمَ أنَّها تواصلُ دعمَ إسرائيلَ في المجالِ الأمنيِّ والعسكريِّ كالتزامٍ بحمايةِ وجودِها المُتَّفَقِ عليه، وتشكيلِها قُوَّةَ الدَّعمِ الثَّانيةِ بعدَ الولاياتِ المُتَّحدةِ لإسرائيلَ.
4-  دورُ أمريكا في سياقِ السِّياسةِ (التَّرَمْبِيَّةِ) الدَّوليَّةِ الجديدةِ:
على الرَّغمِ من المواقفِ المُختلفةِ التي يُمكنُ أن تتَّخذَها الدُّوَلُ الغربيَّةُ تجاهَ إسرائيلَ وفلسطينَ، فتظلُّ الولاياتُ المُتَّحدةُ الأمريكيَّةُ في قلبِ هذهِ المُعادلةِ، فهي الحليفُ الاستراتيجيُّ القويُّ لإسرائيلَ، وقد منحتها الدَّعمَ العسكريَّ والسِّياسيَّ الكبيرَ.ومن العواملِ التي قد تُجبرُ واشنطنَ على إعادةِ تقييمِ موقفِها:
الضَّغطُ الدَّوليُّ: مع تزايدِ الضُّغوطِ القانونيَّةِ والسِّياسيَّةِ من جانبِ المحكمةِ الدَّوليَّةِ ومنظَّماتِ حقوقِ الإنسانِ، قد تجدُ الولاياتُ المُتَّحدةُ صعوبةً في الاستمرارِ في دعمِ إسرائيلَ على حسابِ الرَّأيِ العامِّ الدَّوليِّ بطريقةٍ سافرةٍ.
الرَّغبةُ في تجنُّبِ الحروبِ المُستقبليَّةِ: مع التوجُّهِ الأمريكيِّ نحوَ تقليصِ تدخُّلاتِها العسكريَّةِ في مناطقَ مثلَ الشَّرقِ الأوسطِ، فقد تجدُ واشنطنَ أنَّ دعمَ حلِّ الدَّولتَينِ هو السَّبيلُ الوحيدُ لتحقيقِ الاستقرارِ في المنطقةِ، وبالتَّالي تجنُّبُ المزيدِ من الصِّراعاتِ الدَّمويَّةِ التي قد تُهدِّدُ مصالحَها في المنطقةِ.
الابتعاد عن النزاعات المستمرة :تسعى أمريكا إلى توجيهِ سياستِها الخارجيَّةِ نحوَ أولويَّاتِها الداخليَّةِ، مثلَ التصدِّي للصِّينِ وروسيا، ممَّا يجعلُها أقلَّ رغبةً في التورُّطِ في نزاعٍ طويلِ الأمدِ في الشَّرقِ الأوسطِ. فقبولُ حلِّ انشاء الدولةالفلسطينية يُمكنُ أن يكونَ بديلاً لتخفيفِ التوتُّراتِ مع الدُّوَلِ العربيَّةِ والإسلاميَّةِ، ويُعزِّزُ سمعةَ الولاياتِ المُتَّحدةِ على السَّاحةِ الدَّوليَّةِ، ويمنحُها فُرصةً لإعادةِ ترميمِ نفسها، فقد تجاوزَ الدَّينُ العامُّ الأمريكيُّ أكثرَ من 120% من النَّاتجِ المحليِّ الإجماليِّ، كما تُعاني من تباطؤٍ في النُّموِّ الاقتصاديِّ وزيادةِ تكاليفِ الاقتراضِ للأفرادِ والشَّركاتِ، ففي عامِ 2022م بلغَ العجزُ التِّجاريُّ الأمريكيُّ 948 مليار دولار، وهو الأعلى منذ عامِ 2008م، وبلغَ العجزُ مع الصِّينِ وحدَها 382 مليار دولار، ناهيكَ عن التحدِّياتِ الهيكليَّةِ مثلَ عدمِ المساواةِ وارتفاعِ تكاليفِ الرِّعايةِ الصِّحيَّةِ التي لا تزالُ قائمةً. فالاقتصادُ الأمريكيُّ يُواجهُ مأزقًا جدِّيًا يجعلُهُ يَنحو باتِّجاهِ الانطواءِ على نفسه، ولو مُؤقَّتًا، رغمَ عواصفِ الإجراءاتِ ومحاولةِ إعادةِ التَّوازناتِ في العلاقاتِ الاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّةِ الدَّوليَّةِ، والجنوحِ نحوَ سياسةِ الابتزازِ.
وما زالتِ الولاياتُ المُتَّحدةُ ترزحُ تحتَ ظلِّ ديناميَّةِ التَّغيُّراتِ الدَّاخليَّةِ، وعلى رأسِها تغيُّراتٌ في مراكزِ النُّفوذِ مع تطوُّرِ التِّكنولوجيا وواقعِ الاقتصادِ والحالةِ المُجتمعيَّةِ، ممَّا انعكسَ على البناءِ الفوقيِّ . فقد أصبحتِ شركاتُ تقنيَّةِ المعلوماتِ والذَّكاءِ الاصطناعيِّ أكثرَ قُوَّةً، ممَّا هدَّدَ وَحدانيَّةَ النُّفوذِ التَّقليديِّ للحكومةِ ومجمَّعِ الصِّناعاتِ العسكريَّةِ. ونرى ذلكَ يتجلَّى في حكومةِ ترامب، التي عملت على تجسيرِ العلاقةِ بين هذه القوى على الأقلِّ في الوقتِ الحاليِّ.
ختامًا : سنتحدَّثُ في الجزءِ الثَّاني من المقالِ حولَ نقاطِ الضَّغطِ السِّياسيَّةِ، والاقتصاديَّةِ، والاستراتيجيَّةِ، والجيوسياسيَّةِ التي يتمتَّعُ بها العربُ تحديدًا، لإحداثِ النَّقلةِ الكُبرى في جدليَّةِ مُعالجةِ القضيَّةِ الفلسطينيَّةِ.

عن Atlas

شاهد أيضاً

حمدي فرّاج يكتب : من “حسبنا الله و نعم الوكيل” الى العظمة والعملقة

اطلس:رسالة الى غزة ، شعبا و مقاومة ، في ظل ما تفوه به “مدير العالم” …