اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: لم تعد المآسي التي تتعرض لها الأمة العربية أحداثًا طارئة أو استثنائية، بل تحوّلت إلى مشهد يومي يتكرر بلا توقف حتى صار مألوفًا حدّ الصدمة ، في غزة تُسكب النيران الإسرائيلية على رؤوس المدنيين منذ شهور، تحت سمع العالم وبصره، بينما تتساقط الصواريخ الإسرائيلية على دمشق وبيروت، وتتعاقب الضربات الأمريكية و الإسرائيلية على صنعاء والحديدة وتعز، في تناغم مذهل بين أدوات العدوان وأهدافه، في مقابل صمت رسمي عربي مريب، يكاد يرقى إلى مستوى الشراكة أو التواطؤ.
ما يجري ليس مجرد سلسلة اعتداءات متفرقة، بل هو مشروع عدواني واسع يستهدف ما تبقى من إرادة في هذه الأمة، مشروع يوزّع الأدوار بين إسرائيل وأمريكا ، ويعيد تشكيل الجغرافيا السياسية العربية وفق منطق التجزئة والتفتيت والتطويع، بينما تغيب الدول العربية عن المشهد، أو تحضر فقط لتبرر أو تُدين على استحياء، أو تغرق في صراعاتها الداخلية التي باتت أداة من أدوات تفكيك الأمة نفسها.
غزة: عنوان الكرامة المستباحة
في غزة تتكثف معاني المأساة والبطولة معًا فمنذ اندلاع الحرب الأخيرة، تخوض هذه البقعة الصغيرة من الأرض معركة غير متكافئة ضد واحدة من أعتى آلات الحرب في العالم، مدعومة عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا من الغرب، في حين يُفرض على أهلها الحصار والتجويع والقتل الجماعي والتهجير، تحوّلت غزة إلى مختبر مفتوح لممارسة أقسى أنواع العقوبات الجماعية، ومع ذلك، ورغم الدم والدمار، لم تنكسر روح المقاومة فيها، بل تصدّرت مشهد المواجهة ورفعت راية الأمة التي أسقطتها الأنظمة الخانعة .
اليمن: عقاب الإرادة المستقلة
حين قرر اليمن أن يكون طرفًا فاعلًا في معادلة الرد على العدوان الإسرائيلي، وإغلاق البحر الأحمر أمام معركة بحرية أربكت إسرائيل والغرب ، سارعت الولايات المتحدة وبريطانيا إلى قصفه بذريعة حماية الملاحة الدولية ، لكن الحقيقة أعمق من ذلك: إنهم أرادوا كسر نموذج يمني يحاول الخروج من دائرة التبعية والهيمنة، أرادوا إسكات صوت لا يتماهى مع الموقف العربي الرسمي الخاضع ، فكانت الضربات رسالة لكل من يفكر خارج المسموح، ومرة أخرى، تغيب الردود العربية، وكأن السيادة اليمنية لا تعني شيئًا، وكأن من يقصف صنعاء هو ضيف لا يجوز إزعاجه بالأسئلة.
سوريا ولبنان: قصف اعتيادي في صمت مقصود
في سوريا، لم تعد الضربات الإسرائيلية خبراً يثير الانتباه، بل باتت مجرد حدث اعتيادي، لا يستدعي حتى بيان إدانة جاف ، فمنذ سنوات، تتعرض الأراضي السورية لعشرات الغارات الإسرائيلية التي تستهدف مواقع عسكرية ومدنية، في ظل غياب شبه كامل للغطاء العربي، بل أحيانًا في ظل تواطؤ إقليمي يوفّر الممرات والسكوت ، وفي لبنان، حيث تحاول المقاومة فرض معادلة ردع، تدور معركة يومية صامتة بين الجنوب المحتل والداخل الإسرائيلي، ومع ذلك، فإن تل أبيب تواصل القصف والتهديد، ضمن استراتيجية تستهدف كسر محور المقاومة بالكامل، وفرض واقع استسلام شامل، يتماشى مع الرؤية الإسرائيلية للمنطقة.
الأنظمة العربية: من العجز إلى الاستقالة التامة
في مواجهة هذا الانهيار، تبدو الأنظمة العربية وقد فقدت أي إرادة للرد أو حتى للغضب ، لم تعد المبادئ القومية أو مفردات السيادة أو قيم الوحدة والكرامة حاضرة في خطابها ، على العكس، انخرط بعضها في مسارات تطبيع كامل مع الكيان الصهيوني ، بينما غرق البعض الآخر في الأزمات الداخلية والصراعات البينية التي أنهكت الدولة وأضعفت القرار، فباتت الكيانات الوطنية نفسها تحت التهديد، وصار العجز البنيوي هو الثابت الوحيد في المعادلة العربية.
الشعوب والمقاومة: آخر ما تبقى من كرامة الأمة
رغم كل هذا السقوط الرسمي، لا تزال الشعوب العربية حية، تنبض بالغضب وترفض هذا الانحدار، وقد شهدنا كيف عادت الجماهير إلى الشارع نصرة لغزة، كيف رفعت الشعارات في العواصم والقرى، كيف نبضت الجامعات والميادين من المغرب إلى البحرين بروح الرفض. وهذا في حد ذاته تعبير عن وجود أمة لم تمت، حتى وإن تم تغييبها، كما أن حركات المقاومة، رغم الحصار والتجويع، لا تزال تحمل السلاح وتصوغ المعادلات، وتعيد تعريف العدو والصديق، وتمنح للأمة شيئًا من الكبرياء المفقود.
خاتمة: سؤال المصير
إن ما يجري اليوم ليس لحظة عابرة في تاريخ الأمة، بل هو مفترق طرق حاسم، فإما أن تبادر الأمة إلى مراجعة شاملة لمساراتها وخياراتها، وإما أن تظل رهينة التفكك والتبعية، لا يمكن لأمة أن تبقى بلا مشروع، ولا يجوز أن يُترك القرار العربي رهينة لأنظمة فقدت الشرعية والقدرة والرؤية ، لا بد من بعث جديد يعيد الاعتبار لفكرة الأمة، لا ككيان سياسي فقط، بل كوعي وموقف وكرامة جماعية، وإلا فإن الاستباحة ستستمر، والمستقبل سيكون امتدادًا كارثيًا لما نراه اليوم.