كتب م. المهندس. غسان جابر : في 25 كانون الثاني/يناير 2022، أغمض القائد الوطني الكبير بدران جابر عينيه للمرة الأخيرة في مدينة الخليل، عن عمر ناهز 75 عامًا، بعد صراعٍ مع فيروس كورونا. رحل الجبل الذي لم تهزه سجون الاحتلال، ولا هدّ عزيمته القيد، رحل أحد أصدق أبناء فلسطين، وأكثرهم حبًا لها وعشقًا لشعبها.
كان وداعه استثنائيًا، كما كانت حياته. جرت له مراسم تشييع عسكرية مهيبة في مدينة الخليل، شارك فيها حشد كبير من القيادات الوطنية والسياسية، إلى جانب الجماهير الفلسطينية من مختلف أنحاء الضفة الغربية، واحتضن تراب الخليل الطاهر جثمانه، كما يليق برجلٍ أفنى عمره فداءً لها.
نعت القوى الوطنية والإسلامية في الخليل فقيدها الكبير، ونعته حركة المبادرة الوطنية الفلسطينية، كما نعى رئيس الوزراء الفلسطيني د. محمد اشتية المناضل الكبير، مشيدًا بمناقبه ومسيرته النضالية الصلبة التي أمضاها في الدفاع عن القضية، ودفع ثمنها أكثر من 15 عامًا في سجون الاحتلال الإسرائيلي.
الميلاد في الخليل… والبداية في “أبطال العودة”
وُلد بدران جابر عام 1947 في مدينة الخليل، في زمنٍ كانت فيه فلسطين تشتعل بمقاومة المحتل البريطاني، وتتهيأ لمواجهة النكبة. ترعرع في بيئة وطنية، وتلقى تعليمه في مدارس الخليل، ثم التحق بالجامعة الأردنية لدراسة الجغرافيا، وهناك بدأت ملامح التزامه الوطني تتجذر.
التحق في بداياته بحركة “أبطال العودة”، ثم بجيش التحرير الفلسطيني، إلى أن كان من أوائل المؤسسين للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في جنوب الضفة، خاصة في مدينة الخليل، التي صارت معقلاً للجبهة بفضل نشاطه الفاعل وقدرته التنظيمية الفذّة.
قائد الانتفاضات الثلاث
لم يكن بدران جابر من أولئك الذين اكتفوا بالشعارات. بل خاض الميدان في انتفاضة الحجارة (1987)، وانتفاضة النفق (1996)، وانتفاضة الأقصى (2000)، وشارك بفعالية في قيادة الحراك الشعبي ضد الجدار والاستيطان.
الأسر… والتعذيب… والصمود الأسطوري
اعتُقل أكثر من 19 مرة، وقضى ما يزيد عن 15 عاماً في سجون الاحتلال، منها فترات طويلة في الزنازين والعزل الانفرادي. تعرّض للتعذيب الذي كان سببا في ضعف سمعه، لكنه بقي شامخاً. في إحدى المرات، رفض مصافحة إسحق رابين عندما زار سجن النقب، وقال عبارته الشهيرة: “لن أُصافح اليد التي تلطخت بدماء أبناء شعبي.”
شارك في قيادة العصيان الشهير في سجن النقب عام 1988، عندما رفض الأسرى بناء أقسام السجن بأيديهم، وواجهوا إدارة السجون بإضراب صلب.
منزل مهدوم وأبناء في الأسر
لم يسلم منزله من انتقام الاحتلال، فتعرض للهدم ضمن سياسة العقاب الجماعي، كما تعرض أبناؤه للاعتقال أكثر من مرة. ومع ذلك، لم يتوقف عن النضال يوماً، بل ظلّ صوتاً حراً لا تقيّده الجدران ولا ترهبه التهديدات.
اختراق جدران العدو… وكسب أصوات من داخله
كان بدران جابر من أوائل من سعى إلى كسب تأييد يهود تقدميين ومناهضين للصهيونية لصالح الرواية الفلسطينية، واستطاع عبر علاقاته مع منظمات حقوقية وأكاديمية داخل إسرائيل وخارجها أن يُحدث خرقاً في الرأي العام، ويجعل من قضية فلسطين قضية إنسانية قبل أن تكون سياسية.
ثابت على المبدأ… رافض لأوسلو
عارض اتفاق أوسلو منذ اللحظة الأولى، واعتبره تفريطاً بحقوق الشعب الفلسطيني، وظل يدعو إلى إعادة بناء منظمة التحرير الفلسطينية على أسس ديمقراطية ووطنية جامعة. كما كان من أشد الرافضين للتنسيق الأمني مع الاحتلال، ودعا إلى المقاومة بكل أشكالها، خاصة الشعبية والوطنية.
وداعاً يا بدران… يا من أحب فلسطين كما لم يحبها أحد
احتضنتك الخليل، كما احتضنت نضالك ووصاياك، وها هي اليوم تبكيك بعيون كل الأحرار. لم تكن قائداً عادياً، بل معلمًا ومربيًا، رمزًا للفداء، ومثالا للقائد الصلب الذي لا يُشترى ولا يُباع. ستمضي الأجيال تردد اسمك، وتستلهم من صمودك، فالوطن لا ينسى رجاله، وذاكرة الشعب لا تمحو مَن نقشوا أسماءهم بالدم والوجع والكبرياء.
نم قرير العين يا أبا غسان، لقد أوفيت، وأحببت شعبك كما يحب العاشق وطنه، وها هو الوطن كله يرد لك الجميل بدمعة وراية وسيرة لا تموت.