الخلاف مع نتنياهو… لا يعني خلافًا مع إسرائيل

اطلس:كتب د. خالد جاسر سليم: في الأيام الأخيرة، تصدّرت وسائل الإعلام تقارير تتحدث عن خلاف بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ورئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، ما أثار لدى بعض الأوساط العربية والفلسطينية آمالًا بإمكانية حدوث تصدّع في بنية التحالف بين الطرفين. وقد زاد من زخم هذه الرواية نشرها في صحيفة إسرائيل هيوم، المملوكة من اديلسون والمحسوبة على التيار الجمهوري ومقرّبي ترامب، ما أضفى عليها مسحة من المصداقية لدى البعض.

وترافقت تلك الروايات مع طرح فكرة مفادها أن ترامب، في ولايته الثانية، قد يكون أقل خضوعًا للضغوط الإسرائيلية، بحكم عدم سعيه لإعادة انتخابه، واعتماده في سياساته الخارجية على شعار “أمريكا أولًا”، حيث تُدار الملفات الدولية بمنطق الصفقة والمصلحة لا الاعتبارات الأيديولوجية. ويستند هذا الطرح إلى إشارات ظهرت في بعض السياسات، كالمفاوضات المباشرة التي قيل إنها جرت مع حركة حماس أو مع إيران دون علم مسبق لإسرائيل، أو ما يُتداول عن استعداد أمريكي لبحث صفقة تتيح تطوير القدرات النووية السلمية للسعودية دون ربطها بشكل صارم بشرط التطبيع مع تل أبيب.
على الرغم من ذلك، فان هذه المقالة تنطلق من تفنيد هذا التصوّر، موضحًا أن ما يُثار – إن كان له أساس أصلًا – لا يتعدى خلافات ظرفية أو شخصية، لا ترقى بأي حال إلى مستوى الخلاف الجوهري مع إسرائيل، في ظل تحالف بنيوي عميق يتجاوز الأشخاص والحسابات الانتخابية. وبناءً عليه، تتناول المقالة طبيعة العلاقة بين واشنطن وتل أبيب من خلال مقاربة “الاعتماد المتبادل غير المتكافئ”، حيث تُعدّ إسرائيل، في حقبة ترامب، حليفًا أمنيًا وأيديولوجيًا داخليًا، مرتبطًا بتحالفات دينية وسياسية متجذّرة في التيار الإنجيلي والمجتمع المحافظ الأمريكي. وفي المقابل، تتمتع إسرائيل بهامش تأثير سياسي وإعلامي واسع داخل الولايات المتحدة، يسمح لها بتوجيه القرارات الأمريكية ضمن إطار ما يمكن تسميته “التحالف غير المشروط”..
الولاية الأولى: أجندة غير مسبوقة في دعم إسرائيل
إن إنعاش الذاكرة الوطنية حول حصيلة، أو حتى جزء من حصيلة، سياسات ترامب في ولايته الأولى، يكشف حجم التحولات غير المسبوقة في الانحياز الأمريكي لإسرائيل: من نقل السفارة إلى القدس عام 2018، ووقف تمويل الأونروا لتصفية ملف اللاجئين، والاعتراف بسيادة إسرائيل على الجولان السوري المحتل، وصولاً إلى “صفقة القرن” التي شرعنت الضم وتجاهلت جوهر القضية الفلسطينية. كما أُغلِق مكتب منظمة التحرير في واشنطن، ووُسِّع تعريف “معاداة السامية” ليشمل انتقاد إسرائيل، ما ضيّق هامش التعبير عن الحقوق الفلسطينية في الساحة الدولية والأكاديمية الأمريكية. فهل يلدغ المؤمن من الجحر نفسه مرتين؟
قيود على الخلاف: بنية التأييد الثابتة لإسرائيل داخل واشنطن
تُدرك إدارة ترامب، كما الإدارات الأمريكية المتعاقبة، أن أي تصعيد سياسي تجاه الحكومة الإسرائيلية يصطدم بجدار من المعوّقات البنيوية العميقة داخل المنظومة السياسية الأمريكية. فلم تعد إسرائيل مجرد ملف في السياسة الخارجية، بل أصبحت قضية داخلية تُدار وفق حسابات انتخابية وتحالفات حزبية، تُحتسب فيها المواقف تجاه تل أبيب كعامل مؤثر في الحشد السياسي والتمويل الانتخابي، خاصة داخل التيار الجمهوري والمحافظين الإنجيليين، الذين يرون فيها تجسيدًا دينيًا مرتبطًا بمعتقدات “العودة الثانية للمسيح”. هذا التموضع يمنع أي رئيس أمريكي – حتى وإن أراد التمايز – من تجاوز حدود “الإجماع المؤسسي” الداعم لإسرائيل داخل واشنطن.
ويُعزز هذا السياق النفوذ الواسع للوبي المؤيد لإسرائيل، وعلى رأسه لجنة الشؤون العامة الأمريكية الإسرائيلية (AIPAC)، التي توجه مواقف صناع القرار وأعضاء الكونغرس من الحزبين. وقد أشار الباحثان ميرشايمر ووالت إلى أن هذا النفوذ يُمارس أحيانًا على حساب المصالح القومية الأمريكية، بما يعمّق التحالف الاستراتيجي العسكري والاستخباراتي، من خلال تمويل سنوي يتجاوز 3.8 مليار دولار، ودعم مشاريع دفاعية كمنظومة “القبة الحديدية”، وتعاون في مجالات التنصت والمراقبة والتكنولوجيا. وتروّج إسرائيل لنفسها كـ”حاملة طائرات أمريكية لا تُغرق”، وهو ما عبّر عنه أرييل شارون بقوله: “إسرائيل تُغني أمريكا عن خمس حاملات طائرات”.
ترامب في ولايته الثانية واستكمال الانحياز المطلق لإسرائيل
في ولايته الثانية التي بدأت مطلع عام 2025، واصل الرئيس دونالد ترامب تصعيد انحيازه المطلق لإسرائيل، مجسدًا ذلك بخطوات سياسية ودبلوماسية صارخة، كان أبرزها إغلاق مكتب الشؤون الفلسطينية ودمجه بالسفارة الأمريكية في القدس، ما أنهى فعليًا أي تمثيل فلسطيني مستقل داخل المنظومة الدبلوماسية الأمريكية. ولم يتردد ترامب في المجاهرة بتفاخره بأنه “الرئيس الأمريكي الأكثر دعمًا لإسرائيل في التاريخ”، مؤكدًا ذلك عبر دعمه العلني وغير المشروط للعدوان الإسرائيلي والتطهير العرقي في غزة، إلى جانب تأييده الصريح لسياسات الضم والتهويد المتسارعة في الضفة الغربية، ورفضه القاطع لأي وساطات دولية ناقدة. وفي انسجام تام مع هذا التوجه، عيّن شخصيات من التيار الديني المحافظ، مثل مايك هاكابي وستيف ويتكوف، في مواقع رسمية حساسة، في تأكيد على التحام إدارته بالأجندة اليمينية الإسرائيلية المتطرفة.
وعلى المستوى العسكري، وافق ترامب على صفقة تسليح ثقيلة لإسرائيل بقيمة تتجاوز 2.5 مليار دولار، تضمنت قنابل مدمّرة كانت مجمّدة سابقًا بسبب مخاوف إنسانية. كما فرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بعد إصدارها مذكرات اعتقال بحق مسؤولين إسرائيليين، واصفًا إياها بأنها “جهة غير شرعية”. ولم تقتصر مشاركة واشنطن على الدعم السياسي والعسكري، بل امتدت لتشمل حرب التجويع الممنهجة على شعبنا، من خلال حماية إسرائيل في كل المحافل الدولية عندما فرضت قيود خانقة على دخول المساعدات الإنسانية إلى غزة منذ اكثر من ثلاثة اشهر، تحت ادعاء كاذب بأن أي إجراء إغاثي يجب أن يضمن “عدم وصول المساعدات إلى حماس”، وهو شرط زائف يخفي نية العقاب الجماعي ويكشف عن انخراط مباشر في استراتيجية التجويع كأداة حرب.
انفصال بين الشخصي والسياسي
رغم الاخبار غير المؤكدة على وجود فتور أو تباين تكتيكي بين ترامب ونتنياهو، فإن ذلك لا يُترجم إلى خلاف استراتيجي مع إسرائيل. فالإدارة الأمريكية الحالية لا تضع علاقتها بتل أبيب موضع مساومة، بل تنظر إليها كركيزة للنفوذ الأمريكي في المنطقة. وبالتالي، فإن أي تباين مع رئيس الحكومة الإسرائيلية يبقى في إطار الخلافات الشخصية أو الحسابات المرحلية، ولا يرقى إلى ما هو ابعد من ذلك، ولن يمتد الى اية طروحات او افكار سياسية يمكن ان تقدمها الإدارة الامريكية للتعامل مع العدوان الإسرائيلي وحرب الإبادة والتطهير العرقي المتواصلة والمتصاعدة.
الضمانات الامريكية: أوراق بلا وزن
ورغم ما يُروَّج له في الدوائر الأمريكية بشأن نية إدارة ترامب طرح “حل شامل لغزة”، فإن أي مقترح من هذا النوع – إن طُرح أصلًا – لن يتجاوز الخطوط الحمراء التي ترسمها إسرائيل مسبقًا، ولن يكون في جوهره سوى أداة لتحشيد الدعم الخليجي لصالح الاقتصاد الأمريكي. فترامب، الذي شجّع اليمين الصهيوني على الترويج لخطابات التهجير والتطهير العرقي، حين دعا صراحة إلى “نقل سكان غزة إلى خارجها”، لا يُتوقع منه أن يتحدى التوجهات الإسرائيلية المتطرفة التي تنظر إلى غزة كعبء ديموغرافي وأمني يجب التخلص منه. وضمن هذا الإطار، ووفق النمط الذي دأبت عليه الإدارات الأمريكية المتعاقبة، فإن أقصى ما يُقدَّم للفلسطينيين لا يتعدى حزمة من الرموز الشكلية، كالوعد بـ”مسار نحو حل سياسي”، تُصاغ بما يرضي ما يُفترض أنه “العقل التفاوضي العربي” كما تتخيله مراكز القرار في واشنطن، دون أن تمس جوهر الصراع المتمثل في الاحتلال، وحقوق اللاجئين، والسيادة. وهكذا، يغدو الحديث عن “حل” سياسي مجرد وسيلة لإدارة الأزمة وامتصاص الضغوط، لا مدخلًا حقيقيًا لمعالجتها أو إنهائها.
الأولوية فلسطينيا: وقف دائم للعدوان
في هذا السياق، فإن أي حديث عن “اتفاقات جزئية” يُروّج لها كبديل عن العودة إلى تنفيذ اتفاق الهدنة الموقع مطلع هذا العام برعاية أمريكية، لا يُعدّ سوى استسلام ناعم يمنح الاحتلال غطاءً سياسيًا ويُشرعن استمرار العدوان. فالرهان على واشنطن، التي أثبتت عبر مختلف إداراتها انحيازها الثابت لإسرائيل، لم يكن يومًا خيارًا موثوقًا. فمن رسائل حبيب عام 1982، مرورًا باتفاق أوسلو وخطة خارطة الطريق، لم تكن الضمانات الأمريكية سوى وعود فارغة، سرعان ما مزّقتها إسرائيل حين اصطدمت بأجندتها الاستيطانية والأمنية. والدرس المستفاد واضح: لا قيمة لتعهدات تفتقر إلى الإرادة أو القدرة على إلزام الاحتلال.
وعليه، فإن الرد الفلسطيني المطلوب لا يكمن في الضغط على المقاومة لتقديم تنازلات، أو تسليم رهائن، أو القبول بشروط سياسية دولية لا يلتزم بها الاحتلال أصلًا. بل إن المدخل الأساسي والواجب هو التوافق على برنامج وطني موحد، يُركّز على وقف العدوان، وإغاثة أهلنا في قطاع غزة، وتعزيز صمودهم في وجه آلة الحرب. فمشاهد الاستنزاف اليومية التي تُبقي الداخل الإسرائيلي في حالة تأهب دائم لسماع أخبار “السماح بالنشر” عن قتلى وجرحى، تذكّر بأن المعادلة الوحيدة التي تفهمها إسرائيل – ومعها واشنطن – هي معادلة السلام الذي يُبنى على القوة والصمود.

عن Atlas

شاهد أيضاً

د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب: غزة تعيش الأمل والفلسطينيون يحبسون أنفاسهم

اطلس:هي ساعاتٌ قليلةٌ تسبق زيارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب إلى كلٍ من المملكة العربية السعودية …