المصور الصحفي عبد الرحيم خضر: الاحتلال حوّل منزل عائلتي إلى مقبرة جماعية

اطلس:صباح أول أيام عيد الأضحى المبارك، السادس من حزيران/ يونيو، خرج المصوّر الصحفي عبد الرحيم خضر من منزله في بلدة جباليا شمال قطاع غزة، في مهمة صحفية. وبعد قرابة الساعتين، تلقى خضر اتصالا هاتفيا مفاجئا من أحد جيرانه ليخبره أن طائرات الاحتلال الإسرائيلي شنت غارة عنيفة على المنطقة التي يقع فيها منزله الذي يؤوي 38 فردا من عائلته.

للوهلة الأولى، لم يتخيل خضر أن منزل عائلته المكون من عدة طوابق هو المستهدف بالغارة، فهُرع إلى المكان ليجد أن المنزل قد تحول إلى أثر بعد عين، حيث دُمر على رؤوس ساكنيه.

ويقول خضر لمراسل “وفا”: “عندما وصلت، لم أعثر على بيت… وجدت حفرة كبيرة، وركامًا، وصمتًا مخيفًا، وكأن الزمن توقف”.

ويضيف: “38 إنسانًا من عائلتي كانوا في البيت. والداي، وإخوتي، وأعمامي زوجاتهم وأطفالهم. عائلة كاملة مُحيت في لحظة. كنتُ ألتقط صورًا قبل دقائق، والآن صرتُ صورةً من بين الصور، وصرتُ قصة تُروى”.

وكان منزل عائلة خضر ملاذًا آمنًا لأبناء العمومة والأنسباء، خاصة مع تصاعد موجات النزوح الداخلي، لكن ذلك الملاذ تحوّل إلى مقبرة جماعية.

ويتابع خضر: “كان البيت مزدحمًا بالأحباب، أطفال يضحكون، ونساء يطبخن، الكل يستعد للعيد رغم الجوع والخوف. فجأة، انتهى كل شيء. القصف لم يترك جدارًا قائمًا، ولم يُبقِ وجهًا يمكن التعرف إليه”.

وتمكنت طواقم الإسعاف والإنقاذ والمواطنون من انتشال جثامين خمسة شهداء من تحت ركام المنزل، و180 كيلو غراما من الأشلاء تعود لشهيدين، بينما لا تزال جثامين باقي الشهداء مدفونة تحت الركام ويصعب انتشالها في ظل غياب المعدات وتواضع الإمكانيات.

المأساة لا تتوقف عند حدود الفقد، بل تتعمّق مع العجز عن استخراج الجثامين ودفنها. يقول خضر: “البيت في منطقة أُعلنت منطقة إخلاء بأوامر من الاحتلال، لا أحد يستطيع الوصول إليه. لا توجد آليات، ولا معدات، ولا فرق إنقاذ. أقف عند أطراف الحيّ كل يوم وأنتظر… لا شيء سوى الريح والغبار، وذكريات متجمدة في التراب”.

ويضيف: “أحيانًا أسمع صراخًا في خيالي، كأن أحدهم لا يزال حيًا، كأن طفلًا من أبناء العائلة ما زال يطلب الماء. أصحو من نومي مذعورًا، أُمسك هاتفي وأفتح الصور، أراجع الرسائل الأخيرة، أبحث عن أثر… ولا أجد إلا وجعًا يكبر”.

يشير خضر إلى أن هناك احتمالًا كبيرًا بوجود أشخاص آخرين، من غير أفراد العائلة، قد لجأوا إلى البيت خلال موجة النزوح الأخيرة.

“بيتنا كان دائمًا مفتوحًا، وكنا نستقبل أقاربنا وأصدقاءنا الهاربين من القصف في مناطق أخرى. من الممكن أن يكون تحت الركام أشخاص لم يُسجّلوا حتى في قوائم الشهداء، لأنه لا أحد يعلم بوجودهم حينها. كانت لحظة كارثية بكل ما تعنيه الكلمة”.

ويحاول خضر استيعاب فداحة ما حدث، لكنه يؤكد أن الألم أكبر من قدرة الروح على الاحتمال. “كل لحظة تمرّ عليّ، أشعر أنني أموت من جديد. هم رحلوا مرة واحدة، أما أنا فأموت ألف مرة. البيت ليس مجرد حجارة، بل حياة بأكملها. لعب الأطفال الصغار، وأحاديث والدتي، دعاء والدي قبل النوم… كله أصبح تحت الأنقاض”.

وعن صدمته من ردّة الفعل الدولية، يقول: “نحن لا نموت فقط بالقصف، بل نموت بالصمت العالمي، بعدم المبالاة، بأن يتحول الفقد إلى خبر عابر. هل يمكن لأي إنسان أن يتخيل أن يُفجع بثمانية وثلاثين شهيدًا من عائلته، ثم يُطلب منه أن يكمل حياته؟ كيف؟”.

ويختم حديثه بنبرة مكسورة لكنها حادة في معناها: “أنا لا أتحدث فقط عن عائلتي، أنا صوت كل بيت دُمّر، كل أم فقدت أولادها، كل طفل فقد دفء أمه. نحن لا نختفي، نحن باقون بأسمائنا، بضحكاتنا، بصورنا، وسنظل نروي قصتنا… لا نريد أن نكون أرقامًا. نريد أن نُذكر كأناس كان لهم وجوه وأحلام، وكانوا يحبّون الحياة رغم كل شيء”.

ومن بين شهداء عائلة خضر، مدير البرامج في برنامج الأمم المتحدة الإنمائي في قطاع غزة، رمزي خضر (47 عاما) وزوجته وستة من أبنائهما، في حين نجا واحد من أبنائه.

وعبّر مدير برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، أكيم شتاينر في بيان، عن حزنه على مقتل رمزي وأفراد عائلته، مؤكدا أنه ظل ملتزما بعمق بدعم الشعب الفلسطيني وتعزيز ولاية البرنامج على الأرض.

وقال شتاينر: “لقد ترك فقدان رمزي وعائلته أثرًا عميقًا في نفوس فريقنا. موظفو الأمم المتحدة والمدنيون في غزة ليسوا – ويجب ألا يكونوا أبدًا – أهدافًا. يجب احترام حماية المدنيين والعاملين في المجال الإنساني وفقًا للقانون الدولي الإنساني”.

وأضاف: “يجب أن تنتهي هذه الحرب. هناك حاجة ملحة إلى وقف إطلاق النار لمنع المزيد من الفظائع. لا ينبغي لأي أسرة أن تتحمل الألم والمعاناة اللذين تواجههما عائلة رمزي، والعديد من العائلات الأخرى في غزة”.

ووفقا للمعطيات الصادرة عن المصادر الطبية حتى منتصف أيار/ مايو الماضي، فقد ارتكب الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 12 ألف مجزرة بحق الشعب الفلسطيني في قطاع غزة، كما مُحيت نحو 2200 عائلة بالكامل من السجل المدني، وأكثر من 5120 عائلة لم يتبق منها سوى فرد واحد، منذ بدء حرب الإبادة الجماعية في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023.

وخلّفت حرب الإبادة أكثر من 182 ألف شهيد وجريح، معظمهم أطفال ونساء، وما يزيد على 11 ألف مفقود، إضافة إلى مئات آلاف النازحين ومجاعة أزهقت أرواح كثيرين بينهم أطفال.

عن Atlas

شاهد أيضاً

مستعمرون يهاجمون منازل المواطنين في بيتا جنوب نابلس

اطلس:هاجم مستعمرون، اليوم الخميس، منازل المواطنين في بلدة بيتا جنوب نابلس. وأفادت مصادر محلية بأن …