كتب اسماعيل جمعه الريماوي: في الشرق الأوسط، لا تُخاض الحروب دائماً بالسلاح فقط، بل بالرؤية والمكانة، بالتوازنات الدقيقة والخطابات السياسية المحمّلة بالرسائل، بالصبر الاستراتيجي بقدر ما تُخاض بالنيران ، وفي هذا السياق، يبدو الصراع بين إيران وإسرائيل اليوم أكثر من مجرد حرب علنا أو في الظل أو سجال ردعي تقليدي، بل هو تعبير عميق عن صراع على مستقبل الدور الإقليمي في المنطقة ، وصياغة معادلات النفوذ في مرحلة ما بعد انهيار التوازنات القديمة.
فإسرائيل، التي اعتادت أن تُقدّم نفسها كقوة ردع لا تُقهَر، باتت تسعى إلى ما هو أبعد من ذلك: إلى تثبيت مكانتها كقوة إقليمية مهيمنة قادرة على توجيه الضربات وتحديد قواعد الاشتباك دون أن تُضطر لدفع كلفة سياسية أو استراتيجية حقيقية ، هذا المسعى لا يتوقف عند طموح إسرائيلي داخلي فقط، بل يحظى بدعم مباشر من الغرب، لا سيما الولايات المتحدة، التي ترى في تفكيك أي قدرة إيرانية على التمدد الإقليمي مصلحةً استراتيجية لضمان تفوق إسرائيل سياسيا و عسكريًا واستمرار هندسة الإقليم بما يخدم التحالف الأمريكي-الإسرائيلي .
في المقابل، تدرك إيران أن خسارتها لهذه المعركة تعني ما هو أكثر من مجرد ضربة عسكرية أو سياسية ، إنها تعني انكماش دورها الإقليمي، وتهاوي ما بنته من نفوذ عبر سنوات طويلة من الاستثمار في شبكات الحلفاء في العراق وسوريا ولبنان واليمن. فالصراع ليس وجودياً فقط على مستوى النظام الإيراني، بل على مستوى المشروع السياسي الإيراني برمّته، والذي بُني على فرضية أن واشنطن يمكن ردعها، وأن إسرائيل يمكن محاصرتها استراتيجياً عبر أطراف الإقليم.
ومع اشتداد التوترات وتكثيف الضربات الإسرائيلية سواءا داخل سوريا ولبنان، والاستهداف المباشر لإيران في محاولة الى تحجيم نفوذها من خلال إعادة هيكلة التحالفات، ومن هنا تتكشف الأبعاد الاستراتيجية الإسرائيلية التي تسعى إلى دفع إيران إلى التراجع تحت الضغط المركّب: عسكرياً في الميدان، وسياسياً من خلال عزلها إقليمياً ودولياً، واقتصادياً عبر الحصار والتجفيف المالي.
وفي هذا المشهد المشتعل، يبدو الدور العربي غائباً أو منقاداً أو بلا فعل في كثير من الأحيان ، فبدلاً من أن يكون العرب فاعلين في ضبط الإقليم ومنع تحوله إلى ساحة صراع بين مشاريع إقصائية، نجد بعض العواصم العربية وقد اختارت التموضع في ظل الاستراتيجية الغربية الإسرائيلية، إما صمتاً أو تماهياً، بل وأحياناً مشاركة في تأطير إيران كخطر أول، دون أن تضع في الاعتبار أن إضعاف إيران ـ مهما اختلفنا مع سياساتها ـ لا يعني بالضرورة تقوية الموقف العربي، بل قد يعني فتح المجال أمام مشروع إسرائيلي توسعي يَعتبر أغلب دول المنطقة و خصوصا العربية كيانات مؤقتة قابلة للتفتيت متى اقتضت مصالح الأمن القومي الإسرائيلي ذلك ، إن الغياب العربي عن التأثير الإقليمي الفعّال لا يعكس فقط ضعفاً في القدرة، بل اضطراباً في الرؤية أيضاً، إذ تتحول بعض السياسات إلى ردود أفعال آنية لا تملك تصوراً استراتيجياً لحفظ توازنات المنطقة واستقلال قرارها.
إن فشل إيران في الصمود قد لا يُفسَّر في إسرائيل كإنجاز ضد دولة معادية، بل كدليل جديد على أن لا أحد يمكنه الوقوف في وجه الهيمنة الجديدة، وهذا يعني أن دولاً عربية أخرى ـ مهما كانت تحالفاتها ـ قد تكون في مرمى الاستهداف ، إن هي خرجت عن الخطوط المرسومة، أو حاولت بناء مشروع سياسي مستقل.
لكن الصمود الإيراني، وإن كان مكلفاً، يبقى هو العامل الحاسم في منع هذه الهيمنة المطلقة ، فالمعركة في جوهرها ليست فقط حول منشأة نووية أو قاعدة عسكرية، بل حول من يملك الكلمة الأخيرة في الإقليم، ومن يصوغ ترتيبات ما بعد النزاعات، ومن يُرسم له الدور ومن يُشطب من الخارطة ، في معركة بهذا الحجم، لا تكفي الضربات السريعة، ولا تجدي نفعاً سياسات الضغط وحدها ، فالمسألة ليست تقنية ولا تكتيكية، بل استراتيجية بامتياز.
إن من يصمد حتى النهاية هو من يفرض روايته و قوته ، سواء في الميدان أو على طاولة التفاوض ، وحين تُكتب تسوية ما، ذات يوم، فإنها لن تُبنى على القوة المجردة فقط، بل على قدرة الطرف الاقوى على تحويل بقائه إلى معطى سياسي لا يمكن تجاوزه ، وفي عالم يتشكل من رماد الحروب والانهيارات، فإن من ينجو هو من يعرف أن الصراع على الوجود لا يُدار بالحسابات اللحظية، بل بالإرادة الطويلة النفس.