من غزة إلى طهران: كيف تستغل إسرائيل التصعيد مع إيران لتمرير جرائم الإبادة بعيدًا عن الإعلام؟

كتب اسماعيل جمعه الريماوي: رغم أن جبهة غزة لا تزال مشتعلة وتستنزف جزءًا من القدرة العسكرية الإسرائيلية، إلا أن التحولات الأخيرة في خطاب المؤسسة الأمنية تؤكد أن أولويات الاحتلال باتت تتجه نحو الشمال، وتحديدًا نحو ما يُسمى بالتهديد الإيراني، وهو ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التوظيف الاستراتيجي للحرب والتصعيد، داخليًا وخارجيًا.

ففي تصريحات نُسبت إلى مصادر عسكرية إسرائيلية، جرى التأكيد على أن قضية “الرهائن” في غزة لم تعد تمثل أولوية كما كانت في الأشهر الأولى من الحرب، وأن التركيز الميداني والاستراتيجي قد تحوّل نحو التعامل مع إيران وعملياتها الإقليمية، لا سيما بعد التصعيد الأخير الذي تخلله قصف متبادل وهجمات سيبرانية واغتيالات في الداخل الإيراني والمنطقة ، هذا التحول لا يمكن قراءته فقط من منظور الأمن القومي الإسرائيلي، بل يجب فهمه ضمن سياق أوسع يعكس طبيعة السياسة الإسرائيلية في إدارة الأولويات وتوظيف الحروب.
فإسرائيل، التي لطالما احترفت استثمار الانشغالات الدولية وغياب الضغط الإعلامي لتحقيق أهدافها العسكرية، ترى اليوم في التصعيد مع طهران فرصة ثمينة لإعادة ترتيب أوراقها على الجبهة الجنوبية ، ففي ظل انشغال الإعلام العالمي بالسيناريو النووي، واحتمال توسع الصراع الإقليمي، تقوم إسرائيل بتكثيف جرائمها في غزة بعيدًا عن عدسات الكاميرا وتغطيات الصحف العالمية، مما يجعل العدوان على القطاع يتحوّل تدريجيًا إلى “حرب صامتة” لا يسمعها سوى من يعيش تحت القصف اليومي.
ومن خلال هذا التراجع المتعمد في الاهتمام الرسمي والإعلامي بقضية غزة، تسعى إسرائيل إلى تحقيق جملة من الأهداف: أولها استنزاف البنية المجتمعية في القطاع من خلال التجويع والقصف والاستهداف الممنهج للبنى التحتية ومراكز الإيواء، وثانيها كسر الإرادة الشعبية عبر إطالة أمد الحرب وتضييق الخناق، وثالثها تمرير سياسات تهجير قسري دون ضجيج دولي، تمهيدًا لما قد يكون عملية ترحيل واسعة النطاق تتناغم مع أهداف إسرائيل التاريخية بإفراغ الأرض من سكانها.
أما داخليًا، فإن هذه الأولوية الجديدة تتيح لحكومة نتنياهو فرصة للهروب من الأسئلة الصعبة التي باتت تحاصرها منذ فشل العمليات في غزة وعجزها عن استعادة المحتجزين ، فبمجرد تحويل الأنظار إلى إيران، يمكن للائتلاف الحاكم أن يعيد إنتاج الخطاب الأمني التقليدي الذي يوحد الجمهور خلف فكرة “الخطر الوجودي”، ويؤجل بذلك أية محاسبة سياسية كانت قد بدأت تلوح في الأفق.
لكن أخطر ما في هذا المشهد ليس فقط تلاعب الاحتلال بخرائط الأولويات العسكرية، بل نجاحه المؤقت في إعادة هندسة الانتباه العالمي، بحيث تصبح جثث الأطفال تحت الركام تفصيلًا عابرًا في نشرات الأخبار، ويصبح الحصار مشهدًا مكررًا لا يثير الغضب، ويُعاد تعريف الإبادة بوصفها مجرد “أضرار جانبية” في حرب لا تُرى.
إن ما يجري في غزة اليوم هو أكثر من عدوان، وأكثر من تجاهل دولي، وأكثر من تواطؤ إعلامي ، إنه اختبار شامل لضمير العالم، ومرآة تعكس عمق الانحدار الأخلاقي في المنظومة الدولية التي تقيس القتل بمعايير السياسة لا بالقيم ، ففي الوقت الذي تُساق فيه الجغرافيا إلى حافة الانفجار بين إسرائيل وإيران، تُساق غزة إلى موت جماعي بصمت، موت لا تحرسه الكاميرات ولا تبلغه العواصم ولا يثير المؤتمرات العاجلة.
وفي هذا الفراغ الأخلاقي، تقف غزة وحدها، تواجه صمتًا عالميًا أشد فتكًا من القنابل ، وما لم تُكسر هذه المعادلة القاتلة، سيظل الاحتلال يعيد إنتاج جرائمه مستفيدًا من كل انشغال، وكل حرب جانبية، وكل صمت دولي ، فإسرائيل لا تحتاج إلى الضوء الأخضر لتقتل، يكفيها فقط أن ينشغل الآخرون بشيء آخر.

عن Atlas

شاهد أيضاً

اسماعيل الريماوي يكتب : ما بين الهجوم على إيران وتصعيد الاحتلال.. كيف تستغل إسرائيل ما يجري في الضفة الغربية؟

بينما تبدو المنطقة مشغولة بـ”الحدث الكبير” المتمثل في الهجوم غير المسبوق على ايران و الحرب …