اعادة تشكيل الشرق الأوسط بين مخططات القوة وصمت العجز

اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: في قلب التحولات العاصفة التي يعيشها الشرق الأوسط، تبرز السياسات الإسرائيلية بقيادة بنيامين نتنياهو بوصفها مشروعًا متكاملًا لا يهدف فقط إلى الدفاع عن “أمن إسرائيل” كما تدّعي الرواية الرسمية، بل يتعدى ذلك نحو إعادة صياغة المنطقة بأكملها، سياسيًا وأمنيًا وثقافيًا، على نحو يُرسّخ هيمنة إسرائيل ويُمهد الطريق لما يُشبه الحلم التاريخي المتمثل بـ”إسرائيل الكبرى”، لا بالضرورة بحدودها الجغرافية القديمة، بل من خلال النفوذ والسيطرة والتفوق المطلق.

المحور الأول لهذا المشروع يتمثل في القضاء على فكرة المقاومة وحركاتها، عبر استراتيجية مزدوجة تجمع بين الاستنزاف العسكري والشيطنة السياسية، فالمقاومة بنظر المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، ليست مجرد تهديد أمني، بل هي نقيض وجودي لفكرة “إسرائيل الآمنة” ، ولهذا تعمل تل أبيب على ضرب كل منابر المقاومة سواء كانت فلسطينية أو لبنانية أو حتى في أماكن أبعد، مستهدفة بذلك البنية العسكرية والاجتماعية والدينية التي تغذي ثقافة الرفض للاحتلال ، وما يجري في غزة ولبنان وسوريا ليس إلا تجليات واضحة لهذا النهج.
الضلع الثاني في هذه المعادلة يتمثل في ضمان التفوق العسكري النوعي لإسرائيل، بدعم غير مشروط من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين ، هذا التفوق لا يُراد له أن يكون توازنًا مع خصوم إقليميين، بل يسعى ليكون فاصلًا حاسمًا يَمنع أي طرف آخر من مجرد التفكير في المواجهة ، فإسرائيل لا تكتفي بامتلاك السلاح، بل تسعى إلى احتكار أدوات الردع في المنطقة كلها، بما في ذلك التفوق السيبراني، والتكنولوجيا المتقدمة، والتعاون الاستخباراتي العابر للحدود.
لكن هذا التفوق ليس هدفًا بحد ذاته، بل أداة لفرض حالة من الردع الاستراتيجي العميق، لا تقتصر على ردع الهجوم بل تمتد لردع النوايا ذاتها ، إنه نوع من الردع النفسي الذي يجعل التفكير في معاداة إسرائيل مكلفًا إلى حد لا يُحتمل ، وهنا تتحول إسرائيل إلى مرجعية أمنية للمنطقة، تُملي شروطها، وتوزع صكوك “الاعتدال” و”التطرف”، وتحدد من يُحظى بالدعم ومن يُقصى أو يُستنزف.
ولتحقيق هذا الهدف، لا بد من تحييد أو إضعاف القوى الإقليمية الكبرى التي تملك أو قد تملك يومًا ما القدرة على معارضة المشروع الإسرائيلي ، في مقدمة هذه القوى تأتي إيران، التي ترى فيها إسرائيل تهديدًا مزدوجًا: فهي أولًا خصم أيديولوجي يُجاهر بعدائه لإسرائيل، وثانيًا تسعى لامتلاك برنامج نووي قد يُقلب موازين الردع في المنطقة ، من هنا يصبح مشروع القضاء على البرنامج النووي الإيراني هدفًا مصيريًا، تُسخّر له إسرائيل كل أدواتها العسكرية والدبلوماسية، وتدفع واشنطن للتورط فيه على مراحل، سواء عبر العقوبات أو الضربات أو الحرب بالوكالة.
إلى جانب ذلك، تعمل إسرائيل على تصدير نموذجها السياسي والأمني إلى المنطقة عبر مشروع التطبيع، الذي يُقدَّم كجسر إلى “الاستقرار”، لكنه في جوهره عملية إسقاط جماعي لفكرة العداء مع الاحتلال، ومحاولة لإعادة تعريف إسرائيل كـ”دولة طبيعية” في المحيط العربي، رغم أنها لا تزال تحتل أراضي عربية، وتقمع شعبًا بأكمله، وتنتهك القوانين الدولية يوميًا ، إن تطبيع العلاقات مع دول عربية محورية، كما حدث مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، ليس غاية في ذاته، بل مدخلٌ لكسر الحاجز النفسي العربي، وتحويل الاحتلال من “خطر وجودي” إلى “حليف استراتيجي”.
وما إن تُستكمل هذه العملية، حتى تنتقل إسرائيل إلى المرحلة الأخطر: إعادة تشكيل الإقليم ذاته ، لم يعد مشروع “إسرائيل الكبرى” مجرد خيال توراتي أو شعار انتخابي، بل بات يُترجم تدريجيًا على الأرض، من خلال محاولات تفكيك الدول المحيطة، ودعم النزاعات الأهلية، وزرع الفتن المذهبية والطائفية، وتفتيت المجتمعات إلى كيانات إثنية وطائفية، بما يُضعف مركزية الدولة الوطنية ويُحول إسرائيل إلى الكيان الأكثر استقرارًا ونفوذًا في محيط متفكك ومشلول.
ما يسعى له نتنياهو في جوهره، ليس فقط نصرًا على غزة أو صفعة لإيران، بل إعادة بناء خريطة الشرق الأوسط على صورة تل أبيب، بحيث تصبح إسرائيل المرجع والقائد وصاحبة اليد الطولى في الإقليم ، وهو مشروع يستمد شرعيته لا من القانون، بل من القوة ومن انهيار النظام العربي، ومن ارتهان بعض العواصم للقرار الأمريكي الذي يرى في إسرائيل ذراعًا متقدمة لحماية المصالح الغربية في المنطقة.
إن خطر هذا المشروع لا يكمن فقط في ما يخطط له، بل في ما ينجح في تنفيذه وسط عجز عربي متفاقم، وانهيار منظومة الردع الإقليمي، وغياب استراتيجية عربية موحدة تقف في وجه هذه الهيمنة المتصاعدة ، فإسرائيل لم تعد تخشى دولاً عربية كما كانت في السابق، بل باتت تستثمر في ضعفها، وتبني مشروعها على أنقاضها.
في المحصلة، نحن لا نقف أمام مجرد صراع حدود أو مواجهات عسكرية متقطعة، بل أمام مشروع متكامل يسعى لتغيير وجه المنطقة بالكامل، مشروع عنوانه الهيمنة، ووسيلته التطبيع، وأداته التفوق العسكري، وهدفه النهائي هو سحق أي فكرة مقاومة أو تحرر، وتكريس إسرائيل كقوة إقليمية لا تُردع ولا تُساءل ولا تُواجه.
إن ما يُرسم للمنطقة اليوم ليس مجرد إعادة اصطفاف سياسي أو تحالفات متبدلة، بل مشروع اقتلاع تاريخي لهوية شعوب بأكملها، تسعى فيه إسرائيل ، إلى محو الذاكرة وتزييف الجغرافيا وكسر الإرادة ، لتبني على أنقاضها شرق أوسط جديد لا مكان فيه لفلسطين، ولا معنى فيه للكرامة أو السيادة أو المقاومة ، فإننا سنصحو ذات يوم لنجد أن الخارطة التي عرفناها لم تعد موجودة، وأننا لم نخسر فقط معركة، بل خسرنا حقنا في الوجود ذاته ، ففي مواجهة مشروع الهيمنة ، لا يكفي أن نقف على الأطلال، بل علينا أن ننهض من تحت الركام، لا لنفاوض على ما تبقى، بل لنمنع ضياع ما هو آت.

عن Atlas

شاهد أيضاً

الشرق الأوسط على حافة الانفجار: إيران تحت النار وإسرائيل تعيد رسم الخريطة

كتب اسماعيل جمعه الريماوي: تشير التطورات المتسارعة في الشرق الأوسط إلى اقتراب المنطقة من مرحلة …