اطلس:في لحظةٍ عربية مشلولة، وغزة تتعرض لأبشع حرب إبادة في التاريخ الحديث، وفي ظل اتساع رقعة العدوان الإسرائيلي إلى دمشق وطهران وجنوب لبنان، يعود الحديث الأمريكي الإسرائيلي عن “تغيير وجه الشرق الأوسط” ليضع لبنان مجددًا في قلب العاصفة، كواحد من أبرز الساحات المستهدفة سياسيًا وأمنيًا وعقائديًا. ولكن هذه المرة، لا تُخاض الحرب على لبنان فقط بالصواريخ والطائرات، بل أيضًا بالدعاية والتضليل، وبالفتنة الداخلية، وبالترويج لمشروع قديم جديد: لبنان المقسّم، المنفصل عن هويته، والمفصول عن دوره.
لم يكن لبنان يومًا كيانًا هامشيًا في معادلة الصراع مع إسرائيل ، بل كان و لا يزال أحد أهم الخنادق الأمامية للمشروع العربي المقاوم ،من بيروت إلى صيدا وعلى امتداد كل الجغرافيا اللبنانية، فقد كتب اللبنانيون مع الفلسطينيين تاريخًا مشتركًا من النضال والمقاومة واللجوء والمعاناة، فقد استقبل لبنان عشرات الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين، خاض من أجلهم حروبًا داخلية وخارجية، ودفع أثمانًا باهظةً من دماء أبنائه واستقراره واقتصاده، ومع ذلك لم يغلق بابه ولم يبدّل مواقفه.
لكن هذا الدور لم يكن مرحّبًا به دائمًا في الغرف السوداء التي ترسم خرائط المنطقة، فالمطلوب للبنان منذ سنوات، هو أن يتحول من بلد مقاوم إلى كيان ضعيف متنازع عليه، بلا هوية وطنية موحدة، ولا جيش قوي، ولا سلاح ردع، تمهيدًا لإدخاله إما في محور الاستسلام و التطبيع أو في مستنقع التفتيت الطائفي وما يجري اليوم – من تصعيد عسكري إسرائيلي ضد الجنوب، إلى أصوات داخلية تطالب بتجريد المقاومة من سلاحها، وصولًا إلى تلميحات أمريكية حول “عودة لبنان إلى بلاد الشام” – ليس إلا ترجمة حثيثة لهذا المشروع.
حين تتحدث الولايات المتحدة عن إعادة لبنان إلى بلاد الشام، فإنها لا تقصد عودة تكامل إقليمي أو تحالف تاريخي، بل تقصد إعادة هندسة الكيانات على أساس طائفي ومذهبي ، هو ذات المشروع الذي ضرب العراق وسوريا ويحاول اليوم أن يضرب لبنان مشروع قائم على تفكيك الدولة الوطنية، وتحويل مكوّناتها إلى كيانات متناحرة عاجزة، لا تشكل خطرًا على إسرائيل، ولا تشكل ظهيرًا للقضية الفلسطينية.
فالحديث عن اجتزاء طرابلس عن لبنان كمنطقة ذات أغلبية سنية و ضمها الى سوريا في مقابل بقاء الجولان السوري المحتل في ايدي إسرائيل، وهذا ما يفسّر السعي الأمريكي الإسرائيلي إلى تقويض ما تبقى من وحدة اللبنانيين الطائفية والتفافهم حول المقاومة، عبر الضغوط الاقتصادية، والانفجار الاجتماعي، والإعلام الموجّه.
فموضوع سلاح المقاومة يجب ان يكون شأنا لبنانيا خالصا يتفق عليه بين القوى اللبنانية المختلفة لا بتدخل خارجي يسعى إلى اللعب في الساحة اللبنانية في استهداف ممنهج .
ولا يمكن فصل هذا الاستهداف الممنهج للبنان عن ما يحدث في غزة، فإسرائيل – التي عجزت عن كسر المقاومة في القطاع بعد اكثر من عشرين شهرًا من الحرب – ترى في جبهة الشمال تهديدا لا زال قائما ، وتطمح إلى تحييدها بأي ثمن، وإذا كان الاحتلال قد فشل في غزة وحربه على لبنان و إيران، فإنه يأمل بإضعاف جبهة لبنان سياسيًا، عبر الداخل اللبناني نفسه، ودفعه إلى سحب سلاح المقاومة تحت عناوين “الحياد” و”الاستقرار” و”إنقاذ الاقتصاد”.
وفي هذا السياق، تتعالى أصوات في الداخل اللبناني تتبنى الطرح الأمريكي الإسرائيلي بحذافيره، وتعيد فتح ملف سلاح المقاومة وكأن المشكلة في سلاح حزب الله، لا في أطماع إسرائيل، ولا في مخططات التقسيم، ولا في الحرب على غزة ، يُراد للبناني أن ينسى من دمّر جنوبه، ومن ارتكب مجازر قانا وصبرا وشاتيلا، ويُراد له أن يصدّق أن الخطر عليه ليس من الاحتلال، بل من شريكه في الداخل.
لكن الحقيقة أبعد من كل هذا التضليل فلبنان، رغم أزماته الاقتصادية، ورغم الانقسام السياسي، ورغم النزيف اليومي، لا يزال يمتلك واحدة من أعظم تجارب الردع الشعبي في التاريخ العربي الحديث، والمقاومة اللبنانية ليست فقط بندقية، بل ثقافة وهوية وكرامة، وقد أثبتت أنها وحدها القادرة على حماية لبنان من المشروع الصهيوني، عندما هربت إسرائيل من الجنوب عام 2000، وعندما فشلت في عدوان 2006، وعندما ارتعدت أمام المعادلة الجديدة التي فرضها محور المقاومة.
اليوم، يُراد للبنان أن ينسى كل ذلك، وأن يذوب في شرق أوسط جديد بلا مقاومة، وبلا فلسطين، ولكن الرهان على سقوط لبنان ليس مضمونًا، لأن في هذا البلد من يدركون أن خسارة الكرامة لا تُعوَّض، وأن التفريط بسلاح هو الخطوة الأولى نحو تحويل لبنان إلى كانتونات طائفية هشّة، تُحكم من السفارات، وتُدار من شركات النفط.
لبنان اليوم لا يُستهدف لأنه ضعيف، بل لأنه لا يزال قويًا بمقاومته ، يُستهدف لأنه الوحيد الذي يربط بين غزة والجنوب و بين فلسطين والكرامة العربية ،ولذلك فإن الدفاع عن لبنان اليوم هو دفاع عن ما تبقى من روح عربية حرة في وجه مشروع طويل من الخضوع والتطبيع والتقسيم ،فإما أن يُحافظ على دوره، أو أن يتحول إلى ذكرى، كما حوّلت أنظمة أخرى نفسها إلى ظلالٍ لا تُرى.
شاهد أيضاً
مروان طوباسي يكتب : نَحن والشعوب في مواجهة السياسة بالنار ، الغرب على خطى أعادة عسكرة العالم
بالمجمل، فأن زيارة نتتياهو الى واشنطن أكدت أن وجود ترامب في الحكم للمرة الثانية أعاد …