اطلس: بكفيا، حيث التقت السماء بالأرض في مشهدٍ جنائزيٍّ مهيب، دخلت السيدة فيروز الكنيسة… ولم يدخل معها الزمن. توقّف كلّ شيء. وحده الحزن كان يسير ببطء، يسبق خطواتها الثقيلة، يغمر الطريق بالصمت، ويملأ الهواء برائحة وداع لا يشبه سوى فجيعة أمٍّ في ابنها.
لم تدخل فيروز لتغنّي، ولا لتتلقّى التصفيق، بل جاءت بقلبٍ مثقوب، تحمله بين ضلوعها كطفلٍ جريح. إنها اللحظة التي ينكسر فيها الصوت، وتتعثّر فيها اللغة، وتصبح الأسطورة أمّاً مكسورة… لا أكثر.
كانت ترتدي السواد، لكن وجهها كان الأبيض الأخير في هذا الحداد. وجهٌ يحمل في قسماته أوجاع عمرٍ طويل: رحيل زوجها عاصي الرحباني، ثم ابنتها ليال، وها هو اليوم ابنها زياد. وكأنّ الحياة تأبى إلا أن تقتطع من قلبها قطعةً بعد أخرى.
زياد، ذلك الابن الذي لم يكن ابناً فحسب، بل كان لغتها الثانية، ظلّها، مرآتها الفنية، عنفوانها في زمنٍ حاول إخضاعها، ودفئها في ليالي الحنين الطويلة.
اليوم، ترحل ملامحه الموسيقية، ويبقى صداه الذي تركه خلفه، يسكن فيروز كما يسكننا. يرحل زياد وتبقى فيروز في مشهدها الصامت، كما كانت دائماً، لكنّ صمتها اليوم أكثر وجعاً، معلّقٌ كتعويذةٍ على أبواب الكنيسة، صمتٌ لا يفكّه سوى دموع الملايين الذين أحبّوا صوتها وصوته، ووجدوهما معاً وطناً ومأوى.
لم تتكلّم فيروز… لكنها قالت كلّ شيء. عيناها كانتا ترتجفان بنداءٍ لا يُسمع، وخطوتها كانت صلاة. وقفت أمام نعش زياد كما وقفت أمام الزمن كلّه: شامخة، حزينة، ومتعبة. كأنّها تقول: “ها هو قلبي… خذوه برفق”.
في هذا اليوم، لم تبكِ أمٌّ فقط، بل بكت بيروت، وغنّت الجبال مرثية لحنٍ لن يُعاد. رحل زياد الرحباني، وبقيت فيروز… صدى وجعٍ لا يهدأ، ونشيدُ أمٍّ تنحني للحزن، ولا تنكسر.
* محمود كلّم: كاتب فلسطيني يكتُبُ في الشَّأنين السِّياسيِّ والوجدانيِّ، وَيُعنَى بقضايا الانتماء والهُويَّة الفلسطينيَّة. يرى في الكلمة امتداداً للصَّوت الحُرِّ، وفي المقال ساحةً من ساحات النِّضال.