اطلس:يُعتبر الغوص في تجارب الأطفال، في أي مكان أو زمان أو ظرف من الظروف على مر التاريخ، واحداً من المعايير المُتّفق عليها لقياس مدى تطوّر أو تدهور الأوضاع الإنسانية في الأبعاد الثلاثة المذكورة. إضافة إلى معاناة النساء، إن إضطرار الأطفال للمكابَدة والصراع من أجل البقاء في أماكن غير آمنة سياسياً وإقتصادياً يوسم هذه الأماكن بتصنيفات بديهية تدل على الوجوب الإنساني العاجل لتغيير الأوضاع والظروف الإنسانية فيها. إن معاناة الطفل، الذكر أو الأنثى، تحمل الكثير من المعاني، ولا يوجد منها شئ ينضوي تحت خانة المنطق البشري كي يبرر هذه المعاناة؛ وذلك لإحتواء العالم “الناضج” على الإنحطاط والخذلان والمبررات العنصرية الكافية لتجويع وقتل الأطفال بدم بارد، إضافةً إلى قِصَر الوقت اللازم لبناء المعاني الواضحة في ذهن الطفل الذي يعيش الأمرّين بغير قدرة على إستنباط أسباب معاناته.
للإسترسال وسبر أغوار الجريمة الوجودية للمعاناة الطفولية، إن الطفل الفلسطيني، أو الغير فلسطيني، المُجَوَّع لا يعلم الأسباب الحقيقية للمجاعة التي تحيط به، بل يُدرك فقط أنه جائع لأسباب تَحمِل الحقد والكراهية، وأنه بحاجة ماسّة إلى الطعام. إن الطفل المريض والمُحاصَر لا يعلم كيف ولماذا أصبح مريضاً، بل يتطلّع إلى اليوم الذي سيحصل فيه على الدواء والعلاج من الآلام المؤرِّقة كي ينام بسلام وطمأنينة. إن الطفل الفلسطيني الذي بُتِرت أطرافه وأصبح يتيماً بقصف صهيوني ساخط على وجوده ورمزيّته الإنسانية لا يعرف ماذا فعل ليستحق مثل هذا العقاب البشري الشيطاني، بل يرى هالة مظلمة وسحابة سوداء يختبئ خلفهما ٨ مليار إنسان شاركوا في هذا العقاب بِتَمَنُّعِهم عن رفع الظلم والقهر عنه وعن والديه وإخوته الذين كانوا ضحايا لهذا العقاب الغير مبرر. بإختصار شديد، إن الطفل الفلسطيني لا يرى الأسباب والدوافع بالوضوح المطلوب، بل يُدرك التأثيرات والنتائج بالجلاء الكافي ليدفعه للتشكيك بِماهية الإنسانية والطبيعة البشرية.
بطبيعة الحال، اذا تحلّى الإنسان ببعد ودقة في النظر إلى الماضي والحاضر والمستقبل، فإنه سيُبصر حقيقة قبيحة تنص على تلفيق الإنسان الفلسطيني بِتُهَم في أحقّيته في العيش وشكوك في إنسانيته قبل أن يخرج من رحم أمه. فإذا خرج الطفل إلى هذا العالم، يخرج متسائلاً: “لقد خرجت لتوّي من بطن أمي! ما الكارثة التي تتسببنا بها أنا وأمي لكي تُقابَل ولادتي بهذا الكَمّ من الحَنَق؟!” وهذا التساؤل الجوهري هو رسالة الطفل الفلسطيني العالمية التي لا يجب أن تغيب عن وجدان وضمير أي إنسان حر.
ولكني سأمضي قُدُماً بهذه التساؤلات إلى العالم بالنيابة عن كل طفل فلسطيني، وهذا الإستجواب ليس إحتجاجاً على القضاء أو القدر، بل على القانون البشري المتخاذل… ما الذنب الذي إقترفه الطفل الفلسطيني بحق الإنسانية ليستيقظ على هذه العقابات الجماعية والضغائن والفوضى العارمة التي تسببت بها شياطين الأرض؟! ما هي الجُنَح الإقتصادية والسياسية التي إرتكبها هذا الطفل ليكون مُجبراً للعمل أو لمجرد السعي الدؤوب لتأمين لقمة العيش لأسرته قبل أن يبلغ سن المراهقة؟! لما كل هذا الهجوم الشرس على ذكاء الطفل الفلسطيني وتشكيل مناهج ضبابية أصبحت تنأى عن الواقع أكثر فأكثر بالنسبة إليه؟! ما هي التُّهَم المُلفَقة بالأطفال الذين يقبعون خلف القضبان في سجون الإحتلال؟! ما ذنب لينا النابلسي ومحمد الدرة لكي يغتال جنود الإحتلال طفولتهما بكل إصرار وتعمُّد؟! ما المبررات الدينية المنطقية التي كانت خلف حرق محمد أبو خضير وعائلة الدوابشة على أيدي المستوطنين المتطرفين في ساعات الصباح الاولى؟!
ما الدوافع التي كانت وراء تأمين الأطفال بالطعام الملقى على الأرض ثم ذبحهم بأيدي الضباط الأمريكيين في مراكز المساعدات قبل سَدّ جوعهم؟! ما المبرر العسكري أو البشري لقتل وإصابة أكثر من ٥٠ ألف طفل، وتجويع ١.١ مليون طفل، منهم أكثر من ٩٠ طفلاً لقوا حتفهم في هذه المجاعة الممنهجة؟! كيف وصل بنا الحال ليكون الطفل الفلسطيني في أي مكان ضحية لتناحر وتبدد دول “الأمتين” السبعة وخمسون؟!… والقرائن الواضحة في هذا الإطار لا تشير إلّا لِتُهَم دينية وجودية؛ أي أن كل هؤلاء الأطفال متّهمون بأنهم فلسطينيين يتّبعون مِلّةً غير ملّة العنصرية والخُبْث، فبالتالي دمائهم مستباحة.
بعد كل هذه الجرائم التي قام بها أعداء الإنسانية والعقيدة بحق الأطفال الفلسطينيين، يجب عليه أن يُدرك بأن كل أسلحته اللاأخلاقية التي يستخدمها ستنقلب عليه حسرات عاجلاً أم آجلاً، وستحوّل هؤلاء الأطفال الذين قَصَف ونَسَف بيوتهم وجوَّعَهم ويَتَّمَهم إلى مقاتلين بإسم الحرية، ومدافعين صامدين عن وطنهم وعقيدتهم الفولاذية التي سيتنصرون بها. وآمُل ممّن كان بحاجتهم أطفال فلسطين بالأمس، وبأمسّ الحاجة إليهم اليوم، ألّا يستمرّوا على موقفهم الذي لا يزيد مع الأيّام إلّا هزيمة وهوان. كما أتمنّى من الدول المجاورة لنا أن يتحلَّوا بأدنى درجات من الإنسانية والأخلاقية وحُسن الجوار بإكتفائهم بالصمت والحيادية على الأقل، فذلك سيكون أفضل بكثير مما يمارسوه الآن بحق إنسانية الشعب الفلسطيني -الشقيق- وشرعيّته في الدفاع عن نفسه.