اطلس:تشهد الساحة الأوروبية تحولات لافتة في المواقف تجاه القضية الفلسطينية، تتجلى في عودة المظاهرات الشعبية الكبرى المؤيدة للحق الفلسطيني، وفي الضغط اليومي على حكوماتها. فتوجه عدد من الدول الأوروبية بإصدار بيان تنديد بجرائم دولة الاحتلال والمطالبة بوقف عدوان الإبادة، والتوجه نحو الاعتراف بدولة فلسطين يؤشر ان هذه التطورات ليست مجرد تعبيرات أخلاقية أو لحظات عاطفية ، بل تمثل فرصة سياسية ينبغي البناء عليها بوعي وفعالية من قبلنا نحن الفلسطينيين .
لقد أعادت مشاهد الدمار والمجازر والمحارق في غزة ، وصور الاقتحامات المتكررة وتدمير المخيمات في الضفة الغربية ، إحياء صورة الدولة المارقة على حقيقتها ، كما وضمير شعوب أوروبا التي لم تعد تحتمل صمت حكوماتها أمام جرائم الاحتلال المتواصلة . المظاهرات ، وحملات المقاطعة، والنقاشات في البرلمانات اضافة الى قرارات عدد من البرلمانات الأوروبية سابقاً منذ ٢٠١٥ ، تشي جميعها بأن هناك تحولا جارياً في المزاج السياسي والشعبي في الغرب ، وخاصة بين فئة الشباب والتيارات التقدمية والحقوقية وحتى بين عدد من الكنائس الكاثوليكية ، رغم ما قد تواجهه مقترحات توحيد الموقف داخل الاتحاد الأوروبي بحكم نصوص أنظمة عمل الاتحاد الأوروبي ووجود قوى اليمين الشعبوي التي باتت تسيطر على بعض الحكومات مؤخرا من صعوبة اتخاذ موقف موحد يصدر عن الاتحاد .
لكن ماذا نفعل نحن الفلسطينيون إزاء هذه اللحظة ؟ كيف نساهم في تقديم ما يلزم من مواقف لتلك القوى السياسية اليسارية والتقدمية الصديقة في أوروبا ، كيف نُحول هذا الزخم إلى مكاسب سياسية حقيقية ؟
أولًا ، على الصعيد الشعبي ، لا بد من تنسيق جهود الجاليات الفلسطينية والعربية في أوروبا وتعاونها مع القوى الأوروبية المناصرة ، لتكون أكثر تنظيماً وتعبيراً عن الرواية الفلسطينية بلغة العالم وحقوق الإنسان . فالفن والثقافة والإعلام الاجتماعي والدبلوماسية الشعبية الواسعة باتت أدوات نضال لا تقل أهمية عن أدوات الدبلوماسية الكلاسيكية والرسمية . الرواية الفلسطينية يجب أن تُروى من قلب الشتات إلى ضمير الشارع الأوروبي بمهنية واحتراف ، بلغة الألم والحق والتاريخ والمستقبل وبروح كفاحية عالية تستجيب لمستوى كفاح شعبنا وتضحياته ، ولمزاج هذه الجماهير المنتفضة هنالك في شوارع العواصم الأوروبية وحتى الأمريكية .
ثانياً، سياسياً ، يجب أن تَستثمر القيادة الفلسطينية هذه التحولات للضغط من أجل توسيع الاعترافات بدولة فلسطين ، وفقا لقرارات الشرعية الدولية وحدود ١٩٦٧ ، وعاصمتها القدس الشرقية . كما أن التوجه إلى الاتحاد الأوروبي ومؤسساته يجب أن يهدف ليس فقط إلى الاعتراف بالدولة ، بل إلى مطالبة علنية بوقف أي شكل من أشكال التواطؤ مع الاحتلال بل حتى واشكال التعاون ، سواء عبر التبادل التجاري ليس مع المستوطنات فحسب بل مع كافة المؤسسات في اسرائيل وعبر وقف الدعم العسكري لإسرائيل ووقف تجارة الأسلحة ، واتخاذ الاجراءات العقابية المطلوبة وفق والقانون الدولي ونصوص نشؤ ميثاق تأسيس الاتحاد الأوروبي نفسه .
ثالثا ، على المستوى القانوني ، فإن الباب بات مفتوحاً لملاحقة مجرمي الحرب الإسرائيليين أمام المحاكم الأوروبية استنادا إلى مبدأ الولاية القضائية العالمية . إن توثيق الجرائم ، وتقديم الملفات عبر منظمات حقوقية فاعلة ، يمكن أن يُحاصر قادة الاحتلال في فضاءات القانون الدولي والأوروبي ، ويمنع عنهم غطاء الإفلات من العقاب من جهة ، ومن جهة اخرى زيادة العزلة التي باتت تُفرض على دولة الاحتلال ، وعدم السماح للبعض العربي لإخراجها من هذه العزلة المتزايدة عبر مخططات السياسة الأمريكية لتوسيع اتفاقيات التطبيع .
وأخيراً، داخلياُ، لا بد من خطاب وطني فلسطيني موحّد ، يعكس وحدة الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده على أساس وحدة الأرض والشعب والقضية ، ويعيد التأكيد بل والعمل الفعلي لبناء واستنهاض منظمة التحرير الفلسطينية كمرجعية سياسية جامعة وباعتبارها جبهة وطنية واسعة تقود شعبنا نحو التحرر الوطني الديمقراطي . فالرأي العام الغربي يحتاج منا إلى خطاب واضح وموحد عقلاني ثوري يستند إلى القانون الدولي ، ويبتعد عن لغة الانقسام وتناقض الرسائل والاستجداء ، ويحتاج الى ان يرى شعبنا الفلسطيني يتمتع بحقوق المواطنة الكاملة باعتباره مصدراً للسلطات من خلال تنفيذ الانتخابات العامة .
وفي هذا السياق ، لا يكفي أن نُطالب العالم بقطع علاقاته مع إسرائيل كقوة احتلال وفرض العقوبات والمقاطعة عليها ، بينما نُبقي نحن ، كسلطة وطنية فلسطينية ، على أشكال من العلاقة مع هذا الكيان تُناقض جوهر قرارات الإجماع الوطني وتنخفض عن سقف مطالب الشعوب الأوروبية بل والدولية المتضامنة معنا . لقد آن الأوان لتنفيذ قرارات المجالس المركزية المتعاقبة لمنظمة التحرير الفلسطينية بوقف التنسيق الأمني وكل أشكال العلاقات القائمة مع دولة الاحتلال ، لا الاكتفاء بإعادة النظر فيها أو تعليقها مؤقتاً . بل بإعادة صياغة العلاقة بشكل جوهري كامل معها باعتبارها نظام احتلال استيطاني عنصري يمارس الاستعمار الاستيطاني والأحلال والمحرقة ضد شعبنا .
فالتعامل مع إسرائيل يجب أن يكون على هذا الأساس ووفق هذا الفهم ، كونها نظام احتلال استعماري تنتهك حقوق شعبنا وقرارات الأمم المتحدة ، وليس كطرف شريك في مسار سياسي غائب أو ميت سريرياً . الانفكاك الفعلي بالقدر الممكن عن منظومة الاحتلال ليس خياراً تكتيكياً اليوم ، بل شرط لبناء مصداقية وطنية أمام شعبنا أولاً ، وأمام العالم الذي ننشد دعمه وينتصر لحقوقنا ثانياً .
ما يحدث اليوم في شوارع أوروبا هو نتيجة صبر طويل وكفاح عادل ومواقف ثابتة لقوى تقدمية جزء منها قد تَقدمَ بمواقفه عن بعض من المواقف الرسمية بطرفنا احيانا كثيرة. لكنه أيضا إنذار لنا نحن الفلسطينيين، فالعالم لن ينتظرنا طويلا إذا لم نُحسن قراءة اللحظة وبناء استراتيجية وطنية شاملة تتفاعل مع المتغيرات الجارية التي يشهدها العالم من حولنا ونكون نحن جزء منها.
إن اللحظة الراهنة تحمل إمكانية نادرة لتغيير موقع القضية الفلسطينية على الخارطة السياسية العالمية. فهل نكون على قدر هذا التحدي؟ وهل نمتلك الإرادة السياسية في تحدي الضغوطات علينا ووقف التعاطي مع سراب الحلول الأمريكية، والجرأة لننتقل من رد الفعل إلى الفعل وبناء استراتيجية واضحة وجريئة، واتخاذ مواقف جادة تجاه بعض الدول الأوروبية التي عارضت أمس التصويت لصالح قرار مراجعة اتفاقية الشراكة الأوروبية الإسرائيلية؟ هذا هو السؤال الذي يجب أن يُجاب عنه بالفعل، لا بالكلام.