كتب اسماعيل جمعه الريماوي: في غزة، لا يبحث الناس عن الحياة، بل عن فتات موتٍ مؤجَّل، في غزة، لا يُطارد الناس رغيف الخبز.. بل يطاردهم الرصاص حتى وهم يتضورون جوعًا ، في غزة، لا تُرمى المساعدات من السماء، بل تُسقط معهم من فوقها آمال البقاء، كأنها لعنة تهبط بلا رحمة.
هذه ليست قصة من زمن المجاعات البعيدة، ولا رواية من عصور الإبادة الجماعية، إنها الحقيقة التي نعيشها الآن، في القرن الحادي والعشرين، على مرأى ومسمع من العالم، في بقعة صغيرة محاصرة اسمها غزة ، حيث تتجلى أقذر ما أنتجته السياسة: نظام “الإغاثة الأميركي-الإسرائيلي”، الذي لم يأتِ بالخبز، بل جاء بالموت.
هكذا بكل وقاحة تُدار المجزرة المقنعة : يُلقى القليل من الطعام من الطائرات او من الشاحنات، حيث يُعلن عن شحنات طحين في أماكن لا تغطيها لا شرعية ولا إنسانية، تُحشد الجموع اليائسة التي أفناها الحصار، ويُترك الناس لمصيرهم في ميادين مفتوحة، وسط النار، وسط الدهس، وسط العطش والخوف و الجوع ، عشرات الأطفال قضوا ، ومئات الشهداء سقطوا برصاص القناصة الإسرائيليين وهم يحملون أكياس الطحين، أهذا هو الخلاص؟ أهذه هي الرحمة الأميركية؟ أهذه هي المساعدات التي وعدوا بها؟
ما يحدث ليس خطأ.. بل خطة ، خطة إجرامية دقيقة، تحوّل كل نقطة توزيع مساعدات إلى ساحة قنص، وتحوّل كل طابور انتظار إلى مجزرة ، هذا ليس فشلًا إنسانيًا، بل نجاح لمشروع القتل بالجوع، والموت بالإذلال، الذي أرادته إسرائيل، وتولت تنفيذه أمريكا بدمٍ بارد.
ما الفرق بين أن تُذبح بمدفع أو أن تُترك تتقاتل على علبة سردين؟ ما الفرق بين المجزرة التي تقع في لحظة، وتلك التي تُنفذ ببطء، برصاصة في كل رغيف، وبدمعة في كل علبة حليب؟
المدنيون لا يُقتلون لأنهم يقاتلون.. بل لأنهم يتضورون جوعًا ، النساء يُسحقن تحت الأقدام بحثًا عن الطعام لأطفالهن، الشيوخ يُطلق عليهم النار لأنهم لا يستطيعون الركض بما يكفي ، الأطفال يموتون لأنهم ظنوا أن الطحين يشبه لعبةً ما، قبل أن تصطادهم القناصة.
فهذه ليست إغاثة، وهذه ليست إنسانية انها مصيدة موت، ومجزرة بطحين أميركي وتمويه إسرائيلي، جريمة مكتملة الأركان.
اي عالما هذا ؟ الذي يرى قوافل الموت ويلوذ بالصمت؟ أين المنظمات الحقوقية التي تحصي الجثث ولا تصرخ؟ أين هؤلاء ممن يدعون اعرابا ؟ من هذا الموت والقهر و الجوع ؟
إن ما يحدث في غزة اليوم هو إعلان وفاة للضمير الإنساني، وإشهار نهاية لكل شعارات العدالة والحرية ، الجوع الذي كان يفترض أن يحرك القلوب، تحوّل إلى سلاح قتل جماعي بيد أقذر تحالف على وجه الأرض: تحالف الاحتلال الإسرائيلي والجبروت الأميركي.
لكن رغم الجوع، رغم الدم، رغم الجثث الملقاة قرب أكياس الطحين، فإن غزة باقية لا تموت ، لأن من يخرج في وجه الرصاص من أجل رغيف خبز، لن يُهزم ، ومن يصمد في وجه التجويع والحصار والموت الممنهج، لا يمكن أن يُركع.
في غزة، يُكتب التاريخ بدموع الأمهات، وبدماء الأطفال، وبصراخ الجياع الذين يرفضون أن يموتوا صامتين.
وفي غزة، حتى الطحين صار راية مقاومة.