عذرًا، لكنني أنا التالي: الضفة الغربية بين الواقع والمصير

كتبت  لما صبحي عواد: في هذه الأرض، لم يعد السؤال “من التالي؟”، بل “متى سأكون أنا؟”. ولذلك، أقول: عذرًا، أكتب لأنني … أنا التالي. فالضفة الغربية تقف اليوم على مفترق طرق، فإما أن تنحدر أكثر نحو التشظي والانفجار، أو أن تشهد ولادة قوى جديدة قادرة على فرض معادلة مختلفة. وفي كلتا الحالتين، فإن القادم لن يشبه ما سبقه، بل سيكون مرآة دقيقة لحجم التحولات التي تعصف بالقضية الفلسطينية برمّتها.

الواقع الراهن: زمن التشظي والانتظار.
تمرّ الضفة الغربية بمرحلة بالغة التعقيد على المستويات السياسية، الأمنية والاقتصادية، الأفق السياسي مسدود، دور السلطة الفلسطينية أكثر تقييدا، بينما يتصاعد نفوذ الاحتلال والمستوطنين، الجمود يخيم على المسار التفاوضي، والتحديات الداخلية والخارجية تتراكم، ما يفتح الباب أمام تساؤلات كبرى حول المصير القريب لهذه البقعة من الوطن.
نحن أمام مشهد متداخل تتقاطع فيه عناصر الانهيار المحتمل، فبينما يغرق المشهد الفلسطيني في جمود سياسي قاتل، تتسارع التطورات الميدانية في الضفة نحو مزيد من التعقيد والخطر.
الاستيطان الإسرائيلي يعيش ذروته، لم يعد مجرد بناء وحدات جديدة، بل تحول إلى اعتداءات وتهجير ممنهج، خاصة في المناطق المصنفة (ج)، بدعم مباشر من حكومة إسرائيلية يمينية متطرفة. هذا التوسع لا يستهدف الجغرافيا فحسب، بل يسعى أيضًا إلى إعادة تشكيل الوعي والسيطرة على الموارد.
وفي المقابل، نشهد تقييدًا متعمدًا لدور السلطة الفلسطينية، بهدف إظهارها كجسم عاجز عن أداء وظائفه، وفاقد للشرعية الشعبية والسياسية. تفكك مؤسساتي، تراجع في قدرتها على تقديم الخدمات أو فرض الأمن، وتزايد الانفصال بينها وبين الشارع الفلسطيني، في نظر كثيرين، لم تعد السلطة تعبر عنهم، بل تمثل كيانًا مفرغًا، خاضعًا للتنسيق الأمني والضغوط الدولية.
أما الواقع الاقتصادي والاجتماعي، فلا يقل خطورة، البطالة في تصاعد، خاصة بين الشباب والخريجين. المساعدات الدولية تتراجع، والاحتلال يقتطع أموال المقاصة التي تُعد مصدرًا أساسيًا لموازنة السلطة. هذه الأزمة المالية تنعكس بشكل مباشر على الخدمات العامة وعلى حياة الناس اليومية، ما يعمّق الشعور بالاحتقان وفقدان الأمل.
وفي الميدان، تمتد نيران التصعيد من جنين إلى نابلس وطوباس، حيث تتكرر الاقتحامات والاغتيالات، في وقت يحكم فيه الاحتلال قبضته على الضفة عسكريًا واستيطانيًا، ويمضي في تفريغها من سكانها الأصليين، وعزل تجمعاتها عن بعضها البعض، وتحويلها إلى جزر متقطعة تخنقها الحواجز وتخترقها الطرق الالتفافية.
إنه واقع يتأرجح بين قمع الاحتلال، عجز السلطة، وانفجار المقاومة، في مشهد يُشبه قنبلة موقوتة تنتظر لحظة الانفجار، أو ربما نقطة التحول.
في الأفق: التوقعات القادمة.
في ظل استمرار الاحتلال وتآكل البنى السياسية الفلسطينية، تبدو ملامح المستقبل في الضفة قاتمة، لكنها في الوقت ذاته متخمة ومتسارعة بالتحولات. الاحتلال ماضٍ في تعميق الفصل الجغرافي والديمغرافي، عبر توسيع شبكة الطرق الالتفافية، بناء الحواجز، وربط المستوطنات ببنية تحتية منفصلة. ما نشهده اليوم هو تجسيد لواقع “الكانتونات” الذي يُفكك الضفة فعليًا، ويُقبر أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية ذات سيادة أو تواصل جغرافي.
أما في الداخل الفلسطيني، فالغليان الصامت يتصاعد، غياب الأفق السياسي، والانهيار الاقتصادي، والظلم الاجتماعي، كلها عناصر تهيئ لتفجر غضب شعبي، قد ينزلق إلى حالة من الفوضى أو الانسحاب الواسع من المشروع الوطني القائم.
لكن وسط هذا السواد، ثمة نبض جديد، المبادرات الشبابية والمجتمعية تتكاثر، غالبًا من خارج البنى التنظيمية الكلاسيكية، وتحمل معها خطابًا جديدًا يعيد تعريف مفاهيم مثل “الوطن”، “القيادة”، “الكرامة” بأساليب أكثر مرونة وجرأة. جيل لا ينتظر خطابًا تقليديًا أو إذنًا بالمقاومة. جيل يكتب لغته، وشعاراته، ومصيره بيده.
العالم يرى… ويتجاهل.
على الصعيد الدولي، لا يزال العالم يتعامل مع القضية الفلسطينية بمنطق إدارة الصراع لا حله، والمجتمع الدولي يواصل سياسته التقليدية: إدارة الصراع لا حله. بيانات الشجب، تحذيرات القلق، ودعوات “ضبط النفس”، بينما الحقيقة على الأرض لا تزداد إلا نزفًا.
دم الفلسطيني لم يعد يثير شهية العواصم الكبرى إلا في سياق التوازنات… لا في سياق العدالة.
بين الانتظار والانفجار.
الضفة الغربية اليوم ليست مجرد جغرافيا تحت الاحتلال، بل مسرح مفتوح على احتمالات الخطر والولادة في آنٍ معًا.
كل مدينة، كل مخيم، كل شارع، هو خزان للغضب والوعي والاستعداد. لسنا أمام نهاية قصة، بل على أعتاب مرحلة ستُحدد ما إذا كانت فلسطين ستبقى قضية تُدار، أم شعبًا ينهض.
الفلسطيني في الضفة لا يعيش فقط تحت وطأة الاحتلال، بل أيضًا تحت سؤال الهوية والقيادة والجدوى.
لكن رغم هذا الحصار المعنوي والمادي، تظهر أشكال جديدة من الحياة، ومن النضال، ومن المعنى.
المقاومة باتت فعلًا شعبيًا، يحمل في طياته رفض الانقراض السياسي، واستعدادًا لدفع ثمن البقاء بكرامة، لكن الطريق طويل، والمستقبل لا يزال غائمًا، تتصارع فيه مشاريع مختلفة على تمثيل الحلم الفلسطيني… أو دفنه.
وفي قلب هذا المشهد، يبقى الصوت الأوضح هو صوت الضحايا الصامتين، من كانوا “التالي” في قائمة لا تنتهي، أو من ينتظرون دورهم بصبر لا يُترجم إلى عناوين إخبارية. هؤلاء هم نبض الأرض… وهم الوقود الحقيقي لأي مستقبل ممكن.
عذرًا، لكن أنا التالي… أنا من لا تُحصى أسماؤهم، ولا تُروى قصصهم، لكني لستُ مستعدًا أن أكون الأخير.
عذرًا أيها العالم، عذرًا أيها الصمت، عذرًا أيها التاريخ… لم نعد ننتظر، بل نستعد.

عن Atlas

شاهد أيضاً

د. بدر زماعرة يكتب : هل أحسنا التعامل مع جيل الـ Zoom؟ تأملات في مستقبل التعليم عن بُعد

اطلس:في زمنٍ لم تعد فيه المسافة تُقاس بالكيلومترات والاميال، بل بضغطة او بكبسة زر، شهدت …