اطلس:كتب اسماعيل جمعه الريماوي: تخيل، للحظة واحدة فقط، أن ما يحدث في غزة كان يحدث في الاتجاه المعاكس.
تخيل أن غزة هي من تمتلك أحدث الطائرات الحربية، وأنها تحاصر تل أبيب منذ عشرين عامًا، تخنق سكانها، تقطع عنهم الماء والكهرباء، تمنع عنهم الغذاء والدواء، وتتحكم في سمائهم وبحرهم وحدودهم ، تخيل أن فصائل المقاومة الفلسطينية تقصف المدن الإسرائيلية يوميًا، تدمر البيوت على ساكنيها، وتقتل آلاف الأطفال، وتبيد عائلات بكاملها، وتحرق المستشفيات بمن فيها من أطباء ومرضى ، تخيل أن تل أبيب باتت مدينة من الركام، وأن مدن الوسط والجنوب الإسرائيلي أصبحت خرائط دمار تتجول فيها الكلاب الضالة بين الجثث المحترقة.
هل كان العالم سيصمت كما يصمت اليوم؟
هل كنا سنسمع مسؤولي العواصم الغربية يتحدثون عن “حق غزة في الدفاع عن نفسها”؟
لا، بل كانت الصورة ستنقلب رأسًا على عقب. كانت ستُعقد الجلسات الطارئة في مجلس الأمن، وتُطلق صفارات الإنذار في كل خطاب سياسي، ويُجند الإعلام العالمي بكاميراته ومراسليه ومشاعره، لصياغة ملحمة الضحية الإسرائيلية. كانت الجيوش ستتحرك، والقرارات ستُتخذ بسرعة البرق، والمساعدات ستُساق إلى تل أبيب عبر الجو والبحر والبر، لأن الضحية حين تكون إسرائيلية، تكون “إنسانًا”، أما حين تكون فلسطينية، فحتى تعريف الإنسان يكون مختلفا.
ماذا لو كان العكس؟
ماذا لو كان الصاروخ الذي دمر حضانة أطفال في رفح قد سقط على مدرسة في بئر السبع؟
ماذا لو كانت الأم التي احتضنت طفلها حتى الموت، وذُوب جسداها معًا تحت القصف، إسرائيلية لا فلسطينية ؟
ماذا لو كانت الصور القادمة من تحت الركام تُظهر مستوطنين مدنيين مذبوحين ومحروقين على قارعة الطريق ؟
هل كان أحد سيجرؤ على تسميتها “أضرارًا جانبية”؟ هل كان أحد سيتحدث عن “تعقيد المشهد” أو “صعوبة التمييز بين المدني والمسلح”؟
العالم يرى بالعين التي يريد ، يرى ما يخدم مصالحه، ويغضّ الطرف عما يعري نفاقه. والحق أنه حين تكون غزة هي الضحية، يُنزع عنها كل ما يمنحها صفة الضحية: تُتّهم بأنها بدأت القتال، وأنها تُخفي السلاح بين الأطفال، وأنها تعرّض نفسها للهلاك، وكأن الأطفال اختاروا أن يولدوا تحت الاحتلال والحصار.
الفلسطينيون لا يُسمح لهم بأن يكونوا بشرًا كاملين في عيون النظام الدولي ، حين يُقتلون، يُبرَّر القتل، وحين يقاومون، يُجرَّمون، وحين يُذبحون، يُطلب منهم “ضبط النفس”، أما الجلاد، فله الحق دائمًا، حتى لو كان يحرق آلاف الجثث في اليوم الواحد، يجوع شعبًا، و يشرده و يدمر كل ما ما يملك .
له الحق لأنه يمتلك السلاح، والسردية، والدعم الأميركي غير المشروط، وخزائن الغرب المليئة بالذخيرة والمواقف المزدوجة.
ماذا لو كان يحدث العكس؟
لكانت غزة المحتلة اسمًا مرادفًا للنازية الجديدة ، ولكان قادة المقاومة ملاحقين في كل المحاكم حول العالم بتهمة الإبادة، ولكان الطفل الإسرائيلي يملأ الشاشات والصفحات، بينما الطفل الفلسطيني لا يُمنح حتى شرف التسمية، بل يُختزل إلى رقم في بيان جيش الاحتلال.
لكن ما يحدث ليس العكس ،ما يحدث هو أن الحقيقة تقتل، وتُدفن معها الإنسانية ،ما يحدث أن من يُفترض أنهم “حماة القيم” يشاركون في ذبحها، إما بالسلاح، أو بالصمت، أو بتزوير الحقيقة ، وما يحدث أن غزة، رغم كل شيء، تصرخ وحدها، وتحترق وحدها، وتقف وحدها، في وجه آلة عسكرية تدّعي أنها “الضحية الأبدية”، بينما تمارس ضدها أبشع جريمة عرفها القرن.
العالم لا يريد أن يتخيل العكس، لأنه يعلم أن الحقيقة ستخنقه، لكننا سنظل نطرح هذا السؤال:
ماذا لو كان يحدث العكس؟
ليس لنقلب المأساة، بل لنُسقط كل الأقنعة.
وفي النهاية لسنا بحاجة إلى أن يحدث العكس كي نعرف الحق من الباطل، ولا إلى تبادل الأدوار كي نُدرك من الجلاد ومن الضحية ، يكفينا أن ننظر في وجوه أطفال غزة المحترقة، أن نسمع بكاء الأمهات تحت الركام، أن نعدّ أسماء الشهداء لا أرقامهم، كي ندرك أن هناك جريمة تُرتكب، وأن الصمت عليها شراكة في سفك الدم.
لكن حين نسأل: “ماذا لو كان يحدث العكس؟”
فلسنا نطرح سؤالًا عبثيًا، بل نفضح كذب هذا العالم، ونكسر مرآته التي تُجمّل القبح وتسميه عدالة ، نحن نضعه أمام صورته الحقيقية، بدون أقنعة وبلا زخارف: عالم منحاز، منافق، لا يرى الإنسان إن لم يكن على صورته، ولا يحزن على المذبحة إن لم تكن في دمه.
غزة في مقاومة هذا الظلم الكوني، لا تزال حية، ولو تحت الركام، لأن موت الضحية لا يُبرئ الجلاد، ولأن التاريخ لا ينسى، والذاكرة لا تموت.