اطلس:كتب د. علاء سليمان الديك : تشهد الأراضي الفلسطينية المحتلة حراكاً رسمياً تجاه إجراء إصلاحات جوهرية كما يرى الساسة الفلسطينيون، ولعل إجراء الانتخابات العامة أحد أهم تلك المحطات. ولكن ما يستجد في هذا الإطار، وبحسب ما تم الإعلان عنه، أن كل من يريد الترشح لخوض تلك الانتخابات عليه الالتزام بالاتفاقيات والمرجعيات الإقليمية والدولية ذات الصلة. وتأتي هذه الدعوة بعد انعقاد مؤتمر نيويورك مؤخراً للحفاظ على مبدأ حل الدولتين من خلال الاعتراف بالدولة الفلسطينية كأساس لإحياء العملية السياسية والخيار التفاوضي من جديد بين الفلسطينيين والإسرائيليين وفق المرجعيات والقوانين الدولية ذات العلاقة. وتزامن ذلك مع إعلان العديد من الدول الغربية، الداعمة لإسرائيل دون قيد أو شرط منذ تأسيسها، نيتها الاعتراف بالدولة الفلسطينية في أيلول/سبتمبر المقبل، الأمر الذي رحب فيه الساسة الفلسطينيون واعتبروه إنجاز تاريخي لم يسبق له مثيل. ويأتي هذا أيضاً في سياق مزيد من الضغوطات التي تمارس على الساسة الفلسطينيون لإصلاح وإعادة بناء مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني على أسس وتوجهات جديدة، تتلاءم مع رؤية الدول الغربية والولايات المتحدة الأمريكية وغيرهما لإعادة بناء المؤسسة الفلسطينية من جديد، بهدف توفير الدعم المالي للفلسطينيين، وكذاك تمكين السلطة الفلسطينية لتعزيز سلطتها الإدارية والأمنية والقانونية في مناطق الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، إذا قبلت إسرائيل بذلك.
ولعل الحديث عن اضطراد الاعتراف بالدولة الفلسطينية وفقاً للقانون الدولي والمرجعيات ذات الصلة أمر جيد، ولكن السؤال الذي يحتاج للتفسير والتحليل أكثر، هل هذه الدول جادة بالاعتراف بالدولة الفلسطينية في الموعد المقرر؟ فإذا كانت جادة، لماذا التأجيل في ظل تنامي إجراءات الاحتلال الأحادية، وتفاقم الظروف التي يعيشها الفلسطينيون اليوم! من جهة أخرى، لو تم الاعتراف بالدولة الفلسطينية من جديد، هل ستتمكن هذه الدول من تجسيد هذه الدولة على أرض الواقع، دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة على حدود الرابع من حزيران عام 67 وعاصمتها القدس الشرقية! علماً أن هناك أكثر من 75% من أعضاء دول المجتمع الدولي تعترف بفلسطين دولة وفق القانون الدولي، ولكن الكل الفلسطيني اليوم تحت الاحتلال المباشر، وإجراءات الاحتلال في اضطراد لضم الضفة الغربية وتهويد القدس، ومازال الفلسطينيون في حصار مستمر في كل الأراضي الفلسطينية، والمستوطنات في كل مكان، ناهيك عن غياب مقومات الحياة للفلسطينيين وفق ما تم الاتفاق عليه منذ أكثر من ثلاثون عاماً، وعليه نتساءل هنا: هل استطاعت تلك الدول المعترفة بفلسطين “دولة” أن تحقق للفلسطينيين أهدافهم السياسية في الحرية والعودة وتقرير المصير؟ فالملاحظ على أرض الواقع أن ذلك لم يتحقق، وعندئذ هل الاعتراف الجديد سيحقق ما لم يتحقق من قبل! أعتقد جازماً أن ذلك لن يغير في الحال والواقع شيئاً، والسبب أن إسرائيل لم تتعاون ولم تلتزم بما يفعله الأخرون، والسبب الأخر أن الساسة الفلسطينيون مازالوا يراهنون من جديد على الغير (الأمريكي والغربي، وهم خارج إطار الصداقة والفعل الصادق والشراكة الاستراتيجية مع الفلسطينيين) لدعم وتحقيق طموحاتهم العادلة والمشروعة بشكل “حازم وثابت”، فكم من القرارات الدولية صدر بحق فلسطين منذ عام 1947! والتي لم يطبق منها شيئا يذكر، وأهمها قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1397 في أذار 2002، الذي كانت الولايات المتحدة صاحبة المشروع أنداك، حيث أكد الاعتراف بدولتان، تعيش جنباً إلى جنب ضمن حدود آمنة ومعترف بها، فأين الدولة الفلسطينية اليوم! فالمعضلة ليست بالقرارات أو مصدرها، ولكن في التجاهل المتعمد وعدم التعاون مع الأخرين لتطبيقها، من قبل إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما.
والجدير بالذكر أن اللجنة الرباعية لرعاية عملية السلام في الشرق الأوسط، التي أنشئت في مدريد عام 2002، وتضم كل من الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا والولايات المتحدة، تهدف لإيجاد حل نهائي للنزاع، على حد وصفهم، وذلك من خلال التأكيد على نبذ العنف والاعتراف بدولة إسرائيل وقبول الاتفاقيات السابقة. وفي هذا السياق التزم الفلسطينيون بذلك تماماً، ولم تلتزم إسرائيل وحلفائها، لذلك بقيت الدولة الفلسطينية قيد الانتظار مجدداً. فالملاحظ أن دور اللجنة الرباعية في سبات عميق وتراجع حقيقي، فالدور الأمريكي يضعف دور اللجنة ويمنع النظر في تقديم حلول فاعلة، حازمة وثابتة، لحل القضية الفلسطينية وتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
وفي سياق متصل، اتخذ الساسة الإسرائيليون قراراً برفض الاعتراف بالدولة الفلسطينية قطعاً، وأكدوا عزمهم المضي قدماً بضم الضفة الغربية وتهويد القدس واحتلال قطاع غزة كاملاً، بهدف التقليل من أهمية الاعتراف الدولي بدولة فلسطين. فإجراءات إسرائيل الأحادية تؤكد أن إمكانية العودة لمسار حل الدولتين وتجسيد دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة وفق القانون الدولي، هو أمر في غاية التعقيد وغير قابل للتنفيذ، ناهيك عن رفض إسرائيل التفاوض مع الجانب الفلسطيني بحجة أنه لا يوجد طرف فلسطيني يمثل الفلسطينيون وقادر على تحقيق السلام، على الرغم من تأكيد الفلسطينيون التزامهم بالعملية السياسية والاتفاقيات السابقة على المستوى الرسمي، برغم ما يمر به الفلسطينيين من أحداث وظروف مصيرية. إضافة لذلك، فإن الرسائل والتفاهمات والاتفاقيات التي وقعت ما بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل منذ مؤتمر مدريد للسلام عام 1991 واتفاق أوسلو وما رافقه من تفاهمات، لم تعد إسرائيل تلتزم بها، والدليل أن الكل الفلسطيني تحت الاحتلال المباشر، وأن الحدود والمال والخدمات الأساسية اليومية بيد إسرائيل، ولن تقبل بإدخال أي شيء للفلسطينيين إلا بعد تدخلات إقليمية ودولية.
من جهة أخرى، فالساسة الفلسطينيون يصرون على الالتزام بتلك التفاهمات والاتفاقيات والمرجعيات من طرف واحد، على الرغم من اتخاذ المجلسين الوطني والمركزي قراراً بتعليق العمل بتلك التفاهمات والاتفاقيات لحين التزام إسرائيل بها، والذهاب لتجسيد الدولة الفلسطينية على أرض الواقع، الأمر الذي لم يطبق وبقي مصيره مجهول! إضافة لذلك، فلقد طرأ مطلب رسمي فلسطيني جاد، والذي يأتي انسجاما مع التفاعلات الدبلوماسية والسياسية التي تتعلق بنية بعض الدول الاعتراف بالدولة الفلسطينية مستقبلاً، بشرط القيام ببعض الإصلاحات الملموسة من قبل الساسة الفلسطينيين، منها على سبيل المثال فإن الترشح الفردي أو الجماعي للانتخابات العامة داخل مؤسسات النظام السياسي الفلسطيني يتطلب الالتزام بالاتفاقيات والمرجعيات والتفاهمات الإقليمية والدولية ذات الصلة، بما فيها التفاهمات مع إسرائيل. مع العلم أن ذلك مسؤولية المؤسسة (منظمة التحرير الفلسطينية)، وليس الأفراد، بمعنى إذا قررت المؤسسة المنتخبة من الشعب الفلسطيني بكافة هيئاتها التشريعية والتنفيذية الجديدة، المضي قدماً في تلك التفاهمات والمرجعيات فليكن ذلك، فهي صاحبة القرار والمخولة بذلك، والعكس صحيح. وعليه، فالترشح سواء فردي أو جماعي، من الممكن أن يلتزم بالمؤسسة كممثل شرعي ووحيد للشعب الفلسطيني لأنها المخولة والمعترف بها لتمثيل الفلسطينيين أمام المحافل الإقليمية والدولية، شريطة أن تضم الكل الفلسطيني دون استثناء، عندئذ يصبح ذلك منطقياً ويتم التوافق عليه بالإجماع دون خلاف، وهنا تكمن قوة التضامن والوحدة الفلسطينية في اتخاذ القرار الوطني المستقل لحماية المكتسبات الوطنية العليا للفلسطينيين وقضيتهم العادلة.
في المحصلة، على الساسة الفلسطينيون عدم التفرد باتخاذ أي قرار دون تشاور وإجماع وطني من كافة الأطراف الفلسطينية، الرسمية والشعبية والأهلية، وبالتالي لا بد من الابتعاد عن تعزيز حكم الأشخاص والمتنفذين والسعي لتعزيز حكم الشعب والمؤسسة والقانون فقط، وهذا من شأنه أن يعزز حوكمة المؤسسة والحكم الرشيد لتحقيق العدالة للفلسطينيين، وغير ذلك من شأنه تعزيز الانقسام الداخلي الفلسطيني وبالتالي التأثير على القضية الفلسطينية سلباً، وعندئذ يصاب الفلسطينيون بخيبة أمل من جديد. وكذلك عدم الاستعجال بالرد على أي خطوات تظهر في الوفق، والتروي لحين دراسة الأمر جيداً من قبل الخبراء والمختصون، ورؤية نتائج وحصاد تلك الخطوات على الأرض لصالح الفلسطينيين أم لا. إضافة لذلك، عدم اتخاذ قرارات مصيرية ومسبقة لإرضاء ومجاملة الغير بهدف استجداء أمر ما، وهذا من شأنه التقليل من قيمة الفلسطيني في نظر الأخرين، فالفلسطيني يناضل ويكافح من أجل حقوقه المشروعة والعادلة، وهي ليست هدية من أحد، فهو يستحق الأفضل كباقي الشعوب في الحرية وتقرير المصير عبر دولة فلسطينية مستقلة وذات سيادة، لها حقوق طبيعية غير منقوصة كغيرها من الدول على أساس الاحترام المتبادل وبعيدا عن التدخل في شؤونها، تعيش بأمن وسلام وازدهار، وهذا لا يختلف عليه أي فلسطيني، سواء من هم داخل منظمة التحرير الفلسطينية أو خارجها. علاوة على ذلك، الابتعاد عن الرضوخ والرهان مجدداً على الولايات المتحدة وحلفائها الغربيون، وعدم استجداء الحقوق المشروعة والعادلة للفلسطينيين من أحد، وخاصة أن الوضع الفلسطيني العام لا يحتمل التأجيل، وبالتالي فإن المسؤولية الوطنية تحتم على الساسة البحث الجاد عن آليات ومرجعيات جديدة وغير مألوفة، متعددة ونزيهة ولديها موقف ورؤية مختلفة وصادقة في مساندة الحق الفلسطيني، للضغط والمطالبة بتطبيق الحقوق العادلة والمشروعة للفلسطينيين على الأرض بحزم وثبات وبما يتوافق مع القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، دون انتظار أو مجاملة لأحد على حساب الضحية. وأيضاً الذهاب الفوري والمعلن لتطبيق إعلان بيكين لإتمام المصالحة الوطنية الفلسطينية، والدعوة لإجراء انتخابات عامة بهدف إصلاح وتفعيل مؤسسات منظمة التحرير الفلسطينية كافة على أسس ديمقراطية سليمة مصدرها الشعب فقط، وليس المحاصصة والتقاسم بين هذا وذاك. وأخيراً الابتعاد عن محاكمة أي طرف من الأطراف الفلسطينية، من ساسة ومثقفين وناشطين، عبر الإعلام الرسمي أو وسائل التواصل الاجتماعي وما شابه، وضرورة الاتزان في الخطاب الرسمي والشعبي الفلسطيني العام بهدف خلق بيئة مناسبة للحوار والتفاهم وحل الخلافات بالتشاور والتعاون لتعزيز الشراكة والاحترام المتبادل.