الكاتب: د.حسن عبد الله
قبل عام تقريبا بادرت الكلية العصرية الجامعية الى احياء الذكرى المئوية الاولى لميلاد الشاعر الفلسطيني مطلق عبد الخالق، بالتعاون مع منتدى ثقافي تأسس في الناصرة وحمل اسم الشاعر الراحل.
وكمشارك في الاحتفالية، قمت بقراءة عدد من قصائد ونتاجات الشاعر، اضافة الى تأمل محطات غنية في سيرته الذاتية، لاكتشف ان مطلق رغم انه توفي وهو في العشرينيات من عمره الا انه ترك تراثا شعريا وصحافيا غنيا، الى جانب اصداره اول مجلة كشاف فلسطينية.
وبعد انتهاء الاحتفالية قلت لنفسي أليس نحن الاكاديميين والمثقفين والمتابعين في بلادنا مقصرون في حق ادبائنا ومبدعينا الرواد الذين رفعوا لواء فلسطين بالموقف والكلمة والصورة المبدعة؟
ثم بادرت الكلية الجامعية نفسها لاحياء الذكرى السنوية الثانية لرحيل الناقد الفلسطيني محمد البطراوي"ابو خالد"، حيث اجمع المتحدثون بانه قد وظف قلمه وطاقاته وامكاناته لدعم وتحفيز مواهب الأدباء الشبان من خلال توجيههم والارتقاء بهم ثقافيا وابداعيا، ليختطفه الموت وهو ممسك بقلمه يكتب عن فلسطين الوطن والشعب والقضية والماضي والحاضر والمستقبل، مسابقا الزمن في تحدي المرض والموت، الا انه رحل مغطى بدواوين الشعر ومجموعات القصص القصيرة والنصوص الروائية والنقدية التي لم يفرغ من قراءتها بعد.
رحل ابو خالد؟ لم يرحل، لان المبدعين الحقيقيين يظلون ينبضون بالحياة حتى وهم تحت الثرى.
وفي اطار البرنامج التكريمي للرواد، فان " العصرية" كلفت فريقا من الباحثين والاكاديميين والادباء، بتجميع ما يستطيعون تجميعه من تراث الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود، لاقامة احتفالية خاصة في الذكرى المئوية لميلاده.
وهذا الشاعر جسَد تجربة مبكرة للمثقف العضوي الملتحم حتى نخاع العظم مع شعبه وقضيته. كتب قصائده الاجمل بدمه الذي ضمخ الارض الطاهرة في معركة الشجرة .. في تلك اللحظة صارت القصيدة بحجم وطن، وصار الوطن بصدق قصيدة معجونة بالزيت والحنون.
اما برهان الدين العبوشي، الذي سيتم الاحتفاء بالذكرى المئوية لميلاده في الايام القليلة القادمة، ضمن فعاليات البرنامج ذاته، فهو شاعر ومثقف كبير، تنقل بين فلسطين والاردن ولبنان والعراق. عاش مقدمات النكبة وناضل ونفي، فقد كان فارسا حقيقيا، خبر فنون التعامل مع السيف والقلم، وربما كان مختلفا عن المتنبي فارس الشعر والسيف، لان فروسية العبوشي كانت فروسية شعر وموقف، كان فارسا مناضلا وهب حياته في سبيل قضية عادلة، مزاوجا بين الوطني والقومي، مدعما ذلك بفهم متفتح وواسع الافق للدين، حيث يتضح ذلك ويتجلى في معظم اشعاره.
ان ما ذكرت عبارة عن نماذج لمبدعين اشعلوا شمعاتهم على اكفهم واناروا لنا الدرب ووضعوا اساسات ثقافية وفكرية قوية ومنيعة، وهم بالطبع واصلو مسيرة من سبقوهم، ليكمل المسيرة بعدهم مبدعون ومبدعون، فجاء بسيسو ودرويش وسميرة عزام، وفدوى طوقان والقاسم وعز الدين مناصرة وكنفاني واخرون واخرون.. وظل الوطن كل الوطن مسكونا بالشعر والنثر والفكر الذي تمرد على القمع وكسر كل القوالب وانطلق يبشر بفجر جديد تأخر نعم، لكنه سيشرق حتما، هكذا تقول الكتب وتجارب الشعوب وحركة التاريخ، وهكذا تقول اناشيد اطفالنا في الرياض والمدارس الابتدائية.
لذلك فان من يدعي اننا شعب قد سقط من السماء بلا تاريخ ولا سياق له على الارض، عليه ان يصمت وينزوي او يخرج من التاريخ، امام عظمة ما قدمه وابدعه اباؤنا ومثقفونا الكبار، وعليه ايضا ان يعترف ان شعبا ضرب جذوره عميقا في التاريخ والثقافة والابداع، سيستمر في انجاب المبدعين من الابناء والاحفاد واحفاد الاحفاد، وسيستمر في كتابة تاريخه بالحبر الممزوج بالعرق والدم والميرميا.
سيستمر يكتب عن نفسه لنفسه وعن نفسه للاخرين، يكتب عن شمسه وامسه ويرسم معالم الغد باصابع واثقة لا تعرف ارتعاشات الباحثين عن تاريخ، او اولئك الذين يسرقون تاريخ الاخرين ويسطون عليه. فهناك مقولة خاطئة تقول بان التاريخ يكتبه المنتصرون، وحيث لا انتصار مطلق للبغي والبطش، فيجب ان يتم تصحيح وتصويب هذه المقولة، لان انتصار الباطل هو انتصار مؤقت، وان التاريخ الصحيح، من تكتبه الحقائق حتى وهي تنزف، فنزيفها يعني مخاضات ولادة جديدة.