إن كان طبيعياً أو مصنعاً، أو إن كان وباءً مقدراً أو بفعل مؤامرة، تجاوزاً لكل ذلك، وقعت الإصابة وحصلت الإدانة، وتوجب دخولي بالحجر الصحي لمدة، تحزرت مديرية الصحه بتحديدها، بادئة بعشرة أيام، ومن ثم تحولت لاربعة عشر يوماً. وكان الحجر في المنزل بمعزل عن أفراد عائلتي الصغيره الذين، لا هم ولا أي من المخالطين لي خلال الأسبوع الأخير ما قبل ظهور الأعراض ثبتت إدانتهم بالإصابة. وفي مساحة كان لنا الإمكانية بعزلها من البيت، كانت الاعدادات بالاحتياجات المكانية على أكمل وجه، حيث للإصابة بالفايروس بالأعراض قصه، وللحجر في المنزل قصة أخرى.
قد يهون الحجر إذا ما حُجرت الأسرة كلها بنفس البيت، يتشاركون المكان والتفاصيل والنقاشات وجلسات الملل اليومية بمشاهدة التلفاز او الطهي والتناول الجماعي للوجبات. وحتى أن يُحجر الانسان في بيته وحيداً يدير أموره واحتياجاته بنفسه، حتى ذلك الوضع محمولاً إذا ما تمت منطقته بالظرف والضرورة. ولكن الحجر في غرفه او في جزء من المنزل، وأن يمنع نفسه من التجول في بيته أو الاختلاط بباقي أفراد أُسرته، تقابلهم على الباب بالكمامة وكفوف البلاستيك لتناول الوجبات التي تأتيك في أطباق وأدوات ذات الاستعمال لمره واحده، كل ذلك يحملك إلى أجواء كنت قد شاهدتها في أفلام تتحدث عن الكوارث العالمية والأوبئة، حيث يعزل المصابون إلى أن تثبت براءتهم. بالحقيقة بالبداية لم أفكر بالحجر وتفاصيله، فالتوتر والقلق من الإصابة وتطورات الأعراض كان الحدث الأهم، وتركز اهتمامي بمتابعتها وعدم نقل العدوى لباقي أفراد الأسرة الذين لم تظهر عليهم أية أعراض حتى بعد انتهاء الخمسة أيام المقررة لهم للعزل. خلال الأربعة عشره يوما من المرحلة الأولى للإصابة، تكفلت عائلتي الصغيره، بإدارة وتوفير الاحتياجات اليومية المادية، وتكفلت شقيقاتي وأشقائي وبعض الأصدقاء (ممن توجب على إعلامهم بسبب مخالطتي لهم قبل أسبوع من الإصابة) بالدعم وبتعزيز الجانب المعنوي. فقد شكل تواصلهم اليومي والمستمر معي خلال الحجر، إن كان للاطمئنان او للنقاش او حتى للدردشة، شكل عوناً أساسياً للتخفيف من حالات التوتر والقلق التي كانت تنتابني أحياناً أو من مشاركتي الاقتراحات للتعامل مع الأعراض التي كانت تشتد أحياناً أو في ملء الساعات الطويلة من الترقب والتشتت بأحاديثهم الداعمة والدافئة.
ليست الكورونا بالإنفلونزا، وإن كانت بمسميات بعض الاعراض تشبهها، ولكن حتى تلك التي تشبهها، فبالإحساس هي شيء
آخر... الحرارة والسعلة كانتا العارضين الذين دفعاني لعمل الفحص، ولكن حتى هذان العارضان فلم يكونا بالمتعارف عليه، فالحرارة مع انها لم تتجاوز ال٣٨، الا ان حجم اللهيب الذي شعرت به في داخل رأسي وصدري وقناة النار التي فُتحت ما بين أذني، تجاوز أي إحساس ممكن أن نسميه ارتفاعاً في الحرارة. أما السعلة، فقد كانت سيدة الموقف والعارض الوحيد الذي ظل الفايروس محتميا به ومسبباً لي النتيجة الإيجابية على مدار الشهر من الإصابة. ومع إنها بدأت خجولة جافه خانقه تخرج من الصدر ولا يستشعرها الحلق، تخرج من قصبه هوائية بدت كأنها تناثر فيها حبيبات من الرمل او رذاذ من التبغ، نجحت لاحقا وبنهاية الأسبوعين بفعل الكم الهائل من المشروبات العشبية ودواء السعلة والتبخيرات وبأنواع محدده من التنفس التأملي، نجحت بتحويله إلى بلغم غير مرن غير قابل للتخلص منه حتى لو بنوبات من السعال الطويله أو بمساعدة عضلات الصدر والمعده...
ولا الكورونا بمرض من الممكن توقع الاعراض التي سيسببها لنا، فلكل خصوصيته ولكل حاله اعراضها، الأمر الذي يوسع تصنيفات المرض ويطيل قائمة العلاجات. فمع الفايروس بدأت مشواري الخاص، بأعراض لم يكن عنوانها الألم، بقدر ما كانت تعبيراً عن حاله غريبه وجديده، عناوينها الاجتياح والتحكم. فمنذ اليوم الثاني من تأكدي من الإصابه، دخلت في حالة من الإحساس وكأن شيئاً استولى على تجاويف جسمي بالأجهزة والمكونات، ووجدتني استشعره بحركة الاستكشاف التي يقوم بها مرورا بكل مكوناتي الداخليه. واستمع بتركيز للتغيرات داخل جسمي، الذي شعرت منذ البدايه ان الفايروس قد اخترقه مسبباً حاله من الشلل الداخلي، محاولا البحث عن نقاط الضعف ليسيطر عليها.
وقد شعرت بفقدان السيطره وبفقدان الإحساس والخواء من الأجهزة والمكونات الداخليه، ولا إحساس إلا بالألم الذي يحدثه الفايروس في المكان الذي يزوره ويطيل لحظات لظنه بوجود ثغره تمكنه من العبث بذلك الجهاز، او ذاك العضو. فها هو لثواني كمن يجرف بملعقة في أسفل الرئتين، ويحاول شل ساقي بشفط مفصل الركبة وتجميدها للحظات.. يمر بسلاسة من داخل بعض الأجهزة، ويقرص خفيفا في أجزاء وبشده في أجزاء أخرى. أجزاء لم أشعر بها من عملية المسح التي أجراها الفايروس، وأخرى قرصها للحظات قصيره، وبعضها يطيل بعض الشيء. خارطة جسمي بمكوناته الداخليه تتبعتها مع الفايروس بدخوله وخروجه السريع والمزعج، وكأنه كان يركل هنا وهناك معبراً عن استيائه من عدم قدرته على أن يحظى بمكان للعبث والاستقرار.
على مدار الأيام الثلاثة الأولى انشغلت بالعمل على خفض حرارتي، وتتبع تحركات الفايروس بداخلي فكان الترقب. ولكوني أُعاني من الحساسية في جهازي التنفسي، للدخان ولاختلاف درجات الحراره، كان للفايروس ومنذ اليوم الرابع لرحلة الفايروس للمسح، أن وجد ضالته. وبدأت أستشعر سيطرته في صدري، معلناً التحكم به وبفرض حالة غريبه من عدم الإحساس، حيث اشعرني بوجود تضخم بالرئتين، اللتان كان احساسي بهما كما الإحساس بكيس منفوخ تخدر، يمر من وسطهما مجرى القصبه الهوائيه، الذي ما كنت استشعره إلا بالسعلة أو بالحريق المؤلم كلما قررت إتمام نفس عميق أو تنهيده. ونخز ضاغط ومتواصل في منطقة الظهر والاكتاف وفي محيط القلب، مصاحبا لنوبات تسارع بضربات القلب أحياناً، تسرق منك نومك المتواصل والمريح في تلك الليلة...
ما بين الاطمئنان بمعرفتي بنقطة ضعفي بحساسية جهازي التنفسي واقتناعي باستقرار الأمور على ما وصلت إليه، وما بين التوتر والقلق الذي بدأت استشعره من التوهم والتوجس من أن الأسوأ لم يأتي بعد، ومسترشدة بالاطلاع المستفيض على التطور الزمني للأعراض والمراحل كما تسلسله بيانات الجهات الصحية المخولة والغير مخولة، بدأت أعاني من الآثار السلبية للقراءة المستفيضة ومن كم المعلومات التي تم جمعها حول المرض، والذي شغلنا الثمانية أشهر المنصرمة. ووجدتني استعيد من ذاكرتي كل ما وفره لنا الانترنت، ووسائل الاعلام ووسائط التواصل الاجتماعي من صوره عن ملامح المرض وأعراضه. لذا وعلى مدار الأسبوع الأول كان القلق والترقب إلى ما سيحدث من تطورات للمرض، وأي الأجهزة سيصيبها انتكاسه، وأيها سيكشف لي الفايروس على وجود عيب به. وهل الحساسية مرض مزمن. وهل قلبي قوي سيحتمل...هل سأتفاجأ باكتشاف شيء غير معروف. وهل سيتوقف الامر على إصابة الرئتين، وهل ستكون خفيفة وتمر، أم ان الفايروس يفعل فعله بالرئتين بصمت وفجأة ستكون الانتكاسة. هل هذه هي نهاية الاعراض، ام الاعراض ستعود للتطور بعد الأسبوع الأول، مثل بعض الحالات، ولربما بعد الأيام الأربع عشر كما الحالات أخرى...
برغم دخولي حاله من الاطمئنان لمغادرتي الأسبوع الأول بسلام لتراجع الحراره، إلا أن الاسبوع الثاني كان الأصعب، حيث لم انتبه أن السلاح الأول الذي استخدمه الفايروس منذ اليوم الأول، ألا وهو افقادي الشهية، كان قد بدأ يعطي نتائجه مع بداية الأسبوع الثاني، حيث بدأت أعاني من الوهن والتعب العام ومن التشتت، ناهيك لفقداني القدرة على الخلود للنوم المتواصل والعميق، وخاصه أن نوبات ضيق التنفس وتسارع نبضات القلب (والتي لم أعرف سببها) عادت لتزورني وتيقظني من نومي. وكما أن الحراره عادت لترتفع بمنتصف الأسبوع الثاني، كذلك الامر بما يتعلق بالحريق المرافق للتنفس العميق على طول مجرى التنفس، والسعلة طبعاً بدورها تعمقت وبدأت تخرج الألم والاحساس بالوهن بمجرى التنفس..
في منتصف الأسبوع الثاني، بدأت استشعر بعض العافية، وبدأت السعلة تميل للطراوة وتصعد شيئاً فشيئاً إلى الحلق، مغلقة الحلق بالبلغم، واخذ الإحساس بالحريق عند التنفس يخف شيئاً فشيئاً. ومن ثم وبشكل مفاجئ بدا وكأن الالتهاب قد ضرب الأذن اليمنى والفك الأيمن بالأسنان واللثة، وعادت الحراره للارتفاع وكذلك نوبات ضربات القلب، وعادت الأمور وكأنها البدايه، ولكن بأعراض مختلفة.
بتكثيف البندول كمسكن وحيد توصي به الصحه، وبالمضادات الحيوية التي لا ينصح بها من الصحه، وبقائمة لا تنتهي بما تمخضت عنه الثقافات الشعبية والطب البديل من المشروبات الساخنة العشبية بما فيها الزنجبيل والميرامية واليانسون والليمون والبابونج وأوراق الكينا، إضافة للبصل والثوم والطحينية والقزحة والشوربات.. دروس اليوغا التي لسنوات واظبت عليها، أنواع التأمل والاستشفاء اللذان كنت قد اختبرتهم عبر الدورات خلال السنوات السابقة، كان منفذي للروح وللتغلب على التوتر والقلق ونوبات صعوبة التنفس والتي كانت تصيبني أحياناً. كل تلك العلاجات كانت معي، ولا زال بعضها مرافقا لي الى ما بعد الشهر وحصولي على النتيجة السلبية للفحص..
في الحجر وساعاته الطويله، عرفت قيمة التكنولوجيا والانترنت، فقد كان الرفيق الأعظم لي بكل استخداماته. فمن تصفح المواقع جوجل واليوتيوب وأمثالهم، ومواقع التواصل الاجتماعي بما ينشر عليها من قصص وأخبار ومشاركات وحتى تفاهات، وتسهيل التواصل مع الناس عبر التليفون او الدردشة بتكرار يومي ولساعات طويله، كل تلك التسهيلات والتي ما كنت لأحظى بها لولا الانترنت والتكنولوجيا، كانت وسيله وسعت مساحة المكان في الحجر ومنعت إحساس الوحدة من الوصول إلي. فلم أدري أهو الشد في رأسي أم قلة النوم أو لضعف طاقتي التي شلها الفايروس، ولربما لفقدان التركيز والتشتت اللذان أحدثهما اللهيب الذي شعرت به في رأسي ببداية الإصابه، لم آدري لأي من هذه الأسباب أو كلها مجتمعه ما كان بمقدوري لا الكتابة ولا حتى ولو تصفح كتاب.
مع نهاية الأربع عشره يوما الموصي بها من منظمة الصحه العالمية للحجر، والمعمول بها من كل الدول كنهاية لقدرة الفايروس على نقل العدوى، لم تنتهي الاعراض، على الرغم من انتهاء الحجر الرسمي، فإلى جانب السعلة وبعض الصعوبة بالتنفس، كان الوهن والتعب لا زالا مرافقان لي أيضاً، ومع ذلك ما كان للصحة الفلسطينية ان تجري لي فحصاً للتعافي، فعلى ذمة منظمة الصحه العالمية، أنا غير ناقله للعدوى وحتى لو لا زلت حامله للفايروس...
إماطة موظف الصحه للثامه وتحديه لي بإن أنفث نفسي في وجهه، نجحت بمطمئنتي ولو قليلا ببطلان فاعلية الفايروس بنقل العدوى مع انتهاء اليوم الرابع عشر. ولكن أسباب عديده بعد ذلك زعزعت ذلك الاطمئنان وأعادتني للمربع الأول. فاستطلاع ردة فعل المحيطين، بالمقربين منهم والغير مقربين، بالابتعاد عني والتحايد لي بعد سؤالهم عن نتيجة فحص التعافي، وبعدم موافقة الطبيب المناوب من الطب الوقائي في السلطة بتحمل مسؤولية النتائج فعلى رأيه فهذا التوجه " على ذمة منظمة الصحه العالمية"، والتي بدوري لم أستطع الاعتماد عليها، وخاصه أن الأعراض لم تنتهي بشكل نهائي أيضاً. كما أن الأبحاث والتقارير التي على الانترنت والصادرة من مؤسسات صحة دوليه، تقر بنسبة ١٪ ببطلان جميع الحقائق المتعلقة بالفيروس وتداعياته، وتحديدا مدة التعافي. لهذا لم أستطع دخول مرحلة الاطمئنان، وبعد ثلاثة أسابيع كان أن أجريت الفحص الثاني في مراكز الصحه في القدس الشرقية، مستخدمة مواطنتي للقدس، وجاءت النتيجة الإيجابية لوجود الفايروس، ولم أدري أهو بسبب التوتر أم هو مسار الفايروس، فقد عادت الأعراض في مجرى التنفس للاشتداد بعض الشيء لبضعة أيام أخرى، ارتفعت الحراره قليلا، وكذلك الامر مع السعلة والاحساس الضاغط على النفس، وعدت للحجر مرة أخرى.
كان الحجر الأول مليئاً بالأحداث والانفعالات، وكنت قد شحنت نفسي لتحمل الأربعة عشر يوماً من العزلة بمنطق الامر الواقع، واستطعت تجاوزه بمساعدة الاحبه والتكنولوجيا، وكان انتهاء الحجر اليوم المنتظر. ولكن تجدد الحجر مره أخرى ما كان بالحسبان، ووجدتني غير قابلة لتحمله ولو بمنطق الضرورة. وعندها عدت لخيار الأربعة عشره يوماً، وقبلت بإن تصبح الفرضية حقيقة، مصدقة أن الفايروس لم يعد معدياً. وبدأت بالاختلاط بمن بالبيت مع أخذ الاحتياطات اللازمة، وخاصه أن السعلة لم تكن لتغادرني، ولم أغادر المنزل إلا لممارسة رياضة المشي في الحي حيث أقيم وللضرورات.
ومع أن الأعراض غادرتني، وقطعت الأربعة عشره يوماً مرتين، إلا أن التحايد وإشارات التوجس ظلا ردات فعل الناس على خبر إصابتي الكورونا. في البيت وفي الطرقات وأينما صادفت أحدا، ومع أن العديد منا يردد نظرية الأربعة عشره يوماً تلك ويتحدث عنها، إلا أن العودة لحياتي الطبيعية وتحقيق الاطمئنان للمحيطين وللغالبية ممن اتعامل معهم من الناس، ظلت رهناً لفحص تعافي يثبت براءتي من الإصابه.
انتهت معركتي مع الفايروس بالتعافي، ولا أدري أهي الجولة الأولى أم أن هناك جولات أخرى. فكما عدم اليقين الذي يشوب كل ما يتعلق بالكورونا كمرض، سواء من مدة تعافي وطرق العدوى والأعراض والعلاجات وما يحدثه الفايروس من إصابات جانبيه أو ما يلازمنا من أعراض بعد رحيله ولكم من الوقت، إضافة بما يتعلق بالكورونا من تشكيك بوجوده كحدث إن كان مقدراً من صنع الطبيعة، أو بفعل مؤامرة غير مؤكد من يديرها ولا لصالح من. كذلك الأمر بعدم اليقين من مدى صحة الفرضية باكتساب المناعة ومدة الحصانة وتكرار الإصابه وطبيعتها إذا ما تكرر الهجوم. ولكن التجربة تضعنا في يقين أكيد وهو أن الفايروس موجود ويجب أخذ اللازم لتفادي الإصابه، بإجراءات السلامة وبتدعيم الصحه ما أمكن. فالفايروس لا يحمل ماده ليضعها في أجسامنا، ولكنه يبحث عن الخلل بداخلنا ليعبث به وليتغدى عليه...