منذ بدء البشرية على هذه الأرض، كان هم الإنسان الأول أن يتنفس وأن لا ينقطع عنه الأوكسجين، ثم إهتم ثانيا بأن يأكل وبعدها بأن يلبس ثم بأن يكون له سقف يحميه من تقلبات الطقس وهكذا دواليك الى أن تطورت البشرية على ما هي عليه الان، وهي مستمرة في التطور بسبب هذا النشاط الإنساني الحثيث الهادف الى زيادة قدرة الإنسان في السيطرة على الطبيعة.
مع هذا التطور ومع تباين النفس البشرية، ظهرت الفوارق التي تعمقت الى صراع طبقي جراء إختلاف الرؤيا الإقتصادية، فالبعض يريد السيطرة على كل شىء، والأغلبية تريد عدالة توزيع ثروات ومقدرات الكرة الأرضية.
وكان لا بد أن يتبع كل فريق نهجا سياسيا معينا لتوطيد مكانته وإقتصادياته، فتولدت القناعة بأن " السياسة ما هي الا تعبير مكثف عن الاقتصاد" وأضفت انا بدوري على المقولة بالقول " والحرب ما هي إلا تعبير مكثف عن السياسة".
أصبح العالم على ما هو عليه الان، سيطرة لأباطرة الاقتصاد، من الرأسماليين المتحكمين بصناعة وتجارة الأسلحة وصناعة الدواء وكرتيلات المخدرات والتبغ وأباطرة الطاقة وبرجوازية الكمبرادور المروجين للسلع وبرجوازية قطاع الخدمات، وأصبح لديهم من المحنكين السياسيين والاقتصاديين ما يمكنهم من إحكام السيطرة على كل شىء حتى الان، إلا الهواء الذي نتنفسه والذي سوف يبيعوننا إياه مستقبلا في عبوات من مختلف الأحجام ودرجات النقاء.
في المقابل، نشأت القوى المناهضة لذلك كله، ونشأت حركات التحرر في هذا البلد أو ذاك التي ناصرت بعضها البعض، فإنتصرت الشعوب على النازية، وإنتصر "الفيتكونغ" في فيتنام على الولايات المتحدة الأمريكية وصمدت "كوبا" في وجه العدوان، وتنتفض دوما شعوب أمريكا اللاتينية والقائمة هنا تطول.
في الشأن الفلسطيني، لم تر حركة التحرر الوطني الفلسطيني نفسها يوما من الايام إلا جزءا من حركة التحرر العالمية والعربية. فكما انخرط مناضلون من مختلف أقطار العالم في الثورة الفلسطينية، انخرط أيضا عدد كبير من المناضلين الفلسطينيين في ثورات البلدان العالمية والعربية التحررية.
شكلت – وما زالت – القضية الفلسطينية أبرز هموم حركات التحرر العالمية والعربية، وانتصرت الشعوب لقضية الشعب العربي الفلسطيني العادلة التي تعتبرها رأس حربة في مواجعة الإمبريالية.
العالم الجديد الذي تريده الامبريالية لا يتعلق فقط بالشرق الأوسط أو حصرا بالقضية الفلسطينية، فقد قوّضت الامبريالية المعسكر الاشتراكي، والحقت الامبريالية بها كل القيادات الرجعية التابعة في العالم وبضمنها العالم العربي، وسيطر المحافظون الجدد على العالم تحت مظلة الحركة الصهيونية. في المقابل هناك من يتصدى لذلك كله وبما هو متاح من امكانيات.
صفقة القرن الهلامية، شأنها شأن مؤامرات اخرى ضد الشعوب .... ليست الصفقة الأولى وليست المشروع الإستعماري الأول ولا يجب أن نراها بمعزل عن السياق التاريخي الإستعماري ... صفقة القرن ... هي "فتاشة" أطلقتها الدوائر الامبريالية جسا لنبض الشارع العربي والفلسطيني والعالمي كي تبلور الدوائر المسيطرة تحركها لاحقا. إذا هي " بالون إختبار" ليس أكثر.
بالغعل، لقد تصدى الشعب العربي الفلسطيني لما رشح من مكونات لصفقة القرن، ويسجل للقيادة الفلسطينية أنها أيضا تصدت لها، لكن ذلك لا يعني مطلقا أن الشعوب العربية والعالمية لم تتصد لصفقة القرن وتجلياتها، ولا يحق لنا أن ندّعي أننا وكلاء النضال الحصريون، بل ونحمل العالم العربي والثوري الدولي "جميلة" أننا من تصدى بشكل منفرد لصفقة القرن.
رغم كل اتفاقيات التطبيع مع كيان الإحتلال التي أبرمتها بعض الأنظمة العربية حتى الان، والتي قد تبرمها أنظمة أخرى مستقبلا، لم ينجح كيان الإحتلال في التطبيع مع الشعوب، فظلت "السفارة في العمارة" في مصر ولا يوجد أي تغلغل لمواطني كيان الاحتلال في المجتمع المصري ويبقى تواجدهم محصورا في بعص المنتجعات السياحية البعيدة عن جماهير الشعب المصري الكادح. ولعل موقف الشعب الاردني الأصيل في موضوع "غاز الاحتلال" خير دليل على معاداة التطبيع. وعندما يجري مواطن يمني في قرارة نفسه حسابا بسيطا بين أن يبتاع لنفسه سلعة ما، هو بأمس الحاجة إليها أو أن يتبرع بفلوسه الشحيحة للشعب الفلسطيني أو أن يسافر من مدينة يمنية لاخرى للخروج في مليونية تضامنية مع الشعب الفلسطيني .... فليس الفلسطيني وحده من أسقط " صفقة القرن"، وعندما يرفع متضامنا ايطاليا أو فرنسيا أو بريطانيا أو أمريكيا أو كوبيا أو امريكيا لاتينا أو افريقيا أو اسيويا علم فلسطين في تظاهرة تضامنية، فليس الفلسطيني وحده من اسقط " صفقة القرن".
هل تعلمون أيها ألأحبة أن سكان بعض المجمعات السكنية في العاصمة المغربية (الرباط) قد رفضوا تأجير شققهم لرئيس مكتب الإتصال الإسرائيلي لدى بلادهم ديفيد جوفرين الذي ما زال يتخذ من فندق بالرباط مسكنا له ولم يفتتح مكتب الإرتباط الإسرائيلي في المغرب الى الان، بل ولم يكتف الشعب المغربي بعدم تأجير ممتلكاتهم لدولة الإحتلال "كممثلية" وإنما دعوا أيضا الى " كنس وتنظيف" الأماكن التي يزوها ممثل دولة الإحتلال تحت عنوان " أطردوا ممثل الكيان المحتل" بتنظيم من " الجبهة المغربية لدعم فلسطين وضد التطبيع"، بالإضافة الى حملة مكثفة من ناشطين مغاربة على صفحات التواصل الإجتماعي تحت عنوان "أطردوا ممثل الكيان الصهيوني"..... فهل نحن الفلسطينيون ... وحدنا من أسقط صفقة القرن؟
ان كنا نظن أن القضية الفلسطينية هي القضية الوحيدة في العالم .... فنحن مخطئون. ان كنا نظن أننا وحدنا من يناضل في العالم ... فنحن مخطئون أيضا، وان كنا نظن أننا " أباطرة النضال" ... فنحن مخطئون أيضا.
لنعيد الامور الى نصابها الحقيقي، حركة التحرر الوطني الفلسطيني هي جزء من حركة التحرر العربي وحركة التحرر العالمي، والشعب العربي الفلسطيني هو جزء من الشعوب العربية والعالمية التواقة للانعتاق من التبعية والاستعمار والاحتلال والرجعية والامبريالية سعيا للتوزيع العادل لثروات المعمورة وجسر هوّة الفرز الطبقي الحاد.
ولا تستطيع حركة التحرر الوطني الفلسطيني أن تواصل مسيرتها دون دعم حركة التحرر العربية والعالمية، وهي تستفيد من دروس وتجارب الشعوب وتتعلم منها.
باختصار ..... لسنا المناضلون الوحيدون .... لسنا الوكلاء الحصريون للنضال على وجه هذه البسيطة... وكفانا "تبجحا".