وكلما خفت شدة الصراع بين هذا المجتمع وذاك ارتفعت وتيرة الصراع الداخلي في كل مجتمع على حدا.
في الانتفاضة الاولى، حيث لم يكن هناك سلطة وطنية، وتقريبا في الانتفاضة الثانية، مع وجود سلطة وطنية، كانت حدة الصراع الاجتماعي الداخلي اقل وطأة عما عليه الان، فكان السارق يخاف ليس من القانون والشرطة، بل من وحدة المجتمع التي كانت تلاحق السارق واي فرد يخرج عن قيم المجتمع وتقاليده، وبسبب الالتزام الجمعي بالقيم والعادات المتفق عليها بشكل غير مباشر، غابت حالات الفوضى والفلتان الاجتماعي، وسبب ذلك كما اسلفنا ان الفرد ملتزم (بإرادته وقناعته ان المجتمع الذي يعيش فيه في صراع شديد مع مجتمع اخر، او مجبرا بتخوفه من العقاب الجمعي الذي تبلور في ذهنه مسبقا، لأي محاولة للخروج عن ارادة المجتمع).
مع دخول السلطة الوطنية، حيث رحب المجتمع بذلك من خلال الاحتفال برجال الأمن الذين وصلوا أريحا وغزة أولا، وفي ذهنه ان هذه السلطة هي التي من المفترض ان تحمل كل الأعباء الاجتماعية والحياتية اليومية، وبالتالي خفت شدة الصراع مع المجتمع الاخر (الاحتلال الاسرائيلي ومكوناته) أو انه اتخذ شكلا آخرا غير عن الأشكال السابقة.
عملت السلطة وفق القوانين المتاحة، سواء ما كان متبلور اصلا في ادراج منظمة التحرير الفلسطينية، او وفقا للقوانين التي سنها المشرع المنتخب في العام 1996. لكن هذه القوانين لم تصل الى درجة بلورة مجتمع متفق على وحدة القانون أو إحلال القانون مكان القيم والعادات الاجتماعية التي كانت سائدة، فاختلط الحابل بالنابل، بين فكرة إنتاج قوانين داخلية واحترامها وتطبيقها على المجتمع القائم وبكل اطيافه، وبين فكرة الاستمرار بالانصياع الى القوانين المجتمعية السابقة والعادات التي عاشها المجتمع سابقا.
ومن خلال ما تعلمناه في علم الاجتماع، فان أي سلطة في اي مجتمع لا يمكن لها ان تقوم ( بمنظومتها الكاملة) الا من خلال الحديد والنار، أو بمعنى أخر الا من خلال القوة، والقوة تعني قوة لفرض القانون على الجميع.
غير أن السلطة الوطنية الفلسطينية، بطبيعتها قد تختلف عما ذهب إليه علماء الاجتماع، في ضرورة اتباع ( إتباع أي سلطة ) القوة لفرض نفسها، وسبب اختلاف السلطة الفلسطينية عن باقي السلطات، أنها جاءت نتيجة فعل جماعي سواء العمل الجمعي المشترك في الانتفاضة الاولى أو نضالات فصائل منظمة التحرير الفلسطينية، بالتالي كان مفهوم ( إتباع القوة) لفرض ( سلطة القانون) من قبل السلطة القائمة بدلا عن المفاهيم والتقاليد المنبثقة من المفهوم الجمعي المشترك لفكرة ( النضال)، فبات غريبا ( على الاثنين، المجتمع والسلطة ) استخدام الهراوة مثلا لقمع متظاهر، او مداهمة منزل لاعتقال معارض او متهم ما لأن هذا الفعل لم يكن في بال المجتمع سابقا، رغم أنه من الناحية العملية والنظرية ( السلطة يجب ان تستخدم القوة لفرض قوانينها).
بين رهبة وخوف من السلطة التنفيذية نفسها من استخدام القوة لفرض القوانين وبالتالي فرض نفسها، وبين عدم تقبل ذهني من المجتمع لاستخدام السلطة لهذه القوة، وفي ظل حالة من تراجع حدة الصراع مع المجتمع الآخر ( الاحتلال الإسرائيلي)، بات من الطبيعي ان تخرج حالة من الفوضى المجتمعية في التعاطي مع القضايا الحياتية اليومية والتي بات فيها مفهوم " الأنا" يطغى فوق مختلف المفاهيم المجتمعية والسلطوية.
ولهذا كله، مع تفاصيله الدقيقة، تنتج بين الفينة والأخرى حالات من الفلتان الاجتماعي، مثل حادثة الجامعة الامريكية والجامعات الاخرى، وشغب الملاعب في دورا وطولكرم، اضافة الى العديد من الصراعات الاجتماعية في العديد من المواقع، وسيبقى الباب مفتوحا لتفاعلها اكثر وأكثر اذا لم يفهم المجتمع بكافة مكوناته ويطبق مفهوم ( السلطة كمنظومة كاملة) بعيدا عن العاطفة الجمعية التي يفهمها الجميع.