الكاتب: راتب عمرو
ما يجري هذه الأيام في دول الربيع العربي بشكل عام وفي ارض الكنانة بشكل خاص يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ان الديموقراطية العربيه دخلت الينا مبكّره وفي غير مكانها وزمانها ، وأن الشعوب العربيه لا زالت تُباع ولاءاتها وتُشترى في سوق السياسة العربيه الذي دفع بها فجأهً ودون سابق انذار ما يسمى بالربيع العربي ، وان تلك الشعوب غير جاهزة بالمطلق الى هذه الديموقراطيه ، وإلا ما هو تفسير ما يحدث في تلك الدول وفي مصرالعروبة تحديداً هذه الأيام ولم يمضي عدة اشهر على انتخاب الرئيس " محمد مرسي " الذي عصفت به احداث الربيع العربي الى قمة الهرم السياسي في اعقاب سقوط النظام المستبد .
صحيح ان الأنظمة الحاليه التي جاء بها الربيع العربي وتحديداً في مصر وصلت الى الحكم من خلال انتخابات ليست متوازنه ، وأن من ثاروا على الطغيان والفساد والأستبداد في ميادين التحرير العربيه هم من اسقطوا تلك الرموز الفاسده ولا احد غيرهم ، وأن شباب الثوره ذابوا مع بدء الأنتخابات الرئاسيه ، ولم يعد لهم اي مُتّسع في الخارطة السياسية العربية او المصريه بعد ان انقسموا على انفسهم وتاهوا في دهاليز الفوضى السياسيه السائده ، لا لشيء بل لأنهم وجدوا انفسهم امام تيار جماهيري جارف يتمثل في الحركات الأسلاميه والأحزاب السياسية المنافسه ، وأن حركة الأخوان المسلمين او جناحها السياسي المتمثل في حزب العداله والتنميه والتي ينتمي اليها الرئيس ركبت موجة الثوره متأخرة ، ودخلت الى معترك الحياة السياسية الشعبية على اكتاف شباب الثوره . ثم انها فازت ليس لأنها الحركة التي ينشدها الشعب المصري بكل اطيافه السياسية والأيدولوجيه، ولكن لأنها الأطول تاريخاً والأكثر إمكانيات ماليه، وأكثر تنظيماً وتفاعلاً وتغلغلاً وتواجداً وقرباً من اوساط الشعب المصري وهو في اغلبيتة ملتزمٌ ومتديّن . وعلى الرغم من انها ليست مؤهله سياسياً لقيادة الشعب وليس لديها من القيادات المتمرسه ممن لهم تجارب وخبرات سياسيه وقياديه حقيقيه تؤهلهم لقيادة مصر ،إلا انها كانت السّباقة لركب موجة الربيع العربي منذ اللحظة الأولى بعد ان استشعرت قُرب نهاية النظام السابق ، فأستغلت ضعف وأنقسام من يقف امامها في الساحة السياسيه ، فحشدت كل امكاناتها الممكنه والمتاحة وهي كثيره ، حشدتها وجندتها للفوز بمنصب الرئيس وكان لها ما ارادت .
ولما كانت المعارضه السياسية في دول الربيع العربي عموماً وفي مصر تحديداً هي في معظمها إما على شكل احزاب سياسية ناشئه، وليس لها اي حضور شعبي يؤهلها للتنافس مع الحركات الأسلاميه، وإما على شكل افراد من فلول الأنظمة او النظام السابق كما اسماهم البعض ، تنقصهم "الكارزما" والخبرة السياسية اللازمه للتقرب من الجماهير وليس لديهم اي تاريخ سياسي او حتى رصيد اجتماعي متميز ، وأنها جميعها دخلت الى الساحة السياسيه بعد سنوات عِجاف من الدكتاتورية والقمع والتهميش السياسي ، وبعد غياب طويل عن ممارسة العمل السياسي الحر ، حيث وجدت نفسها امام جحافل الحركات الأسلامية المنظمه والمؤهله مادياً وأجتماعياً ، وأن ما حصل عليه بعض من اختارتهم هذه الأحزاب او الجماعات من اصوات إما بسبب كونهم من فلول النظام السابق الذي لا زال له كثير من المستفيدين والمعجبين ، او لأن بعضهم استثمر رفض الجماهير لحكم الحركات الأسلاميه ، او لأن البعض الأخر لجأ الى استغلال المال السياسي كوسيلة للفوز، على الرغم من كل ذلك فلم يحالفهم الحظ لأنها معارضه ضعيفه ورموزها اكثر ضعفاً .
وبالتالي وقعت الساحة السياسية المصرية بين فكي كماشه ، فك الحركات الأسلامية الضعيفة سياسياً والمحسوبة على بعض دول رأس المال العربي الذي يرى في هذه الحركات خير من يقود الأمه وخير من يتولى شؤونها في الوقت الراهن ، وبين فك المعارضة الناشئه والضعيفه وعلى البعض منها بصمات الأنظمة او النظام البائد ، وهي مطلوبه الى بعض دول رأس المال العربي كذلك والتي تسعى جاهدة لفك حصار الأخوان المسلمين ، وترى فيه دخولا غير مُبرر الى الساحة المصرية والعربيه . من هنا دخلت الساحة السياسية والشعبية العربية وتحديداً المصريه سوق المال السياسي العربي ، وأصبحت الولاءات تُباع وتُشترى ومعروضة بالمزاد العلني وعلى مرأى ومسمع من العالم اجمع .
وصحيح ايضاً ان الأنظمة المنهاره وعلى رأسها النظام المصري السابق كانت بمثابة الزعامات الوحيده لسنوات طويله في تلك الدول، وأنها نجحت طيلة تلك السنوات الماضيه في تفريغ الساحة السياسيه من عمالقة السياسه في تلك الدول ، حتى بدت الأمور وكأنها قد خلت من الرجال ليس فقط في زمن حكمهم بل حتى بعدهم ، وأن ما يحدث في مصر وليبا واليمن وتونس هذه الأيام يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك ان الساحة السياسية في تلك الدول وتحديداً مصر مفرّغةٌ بالكامل من رجالات الدوله ، وخالية ممن يُعوّل عليهم ملئ الفراغ الذي حدث ، سواء بسبب حالة التهميش التي مُورست طيلة العقود الماضيه ، او بسبب خوف العديد من الكفاءات السياسية النادره من الدخول الى معترك الحياة السياسيه في ظل اوضاع ضبابيه وغير واضحة المعالم .
ثم أن الديموقراطية التي جاء بها الربيع العربي الى الدول التي زارها دخلت اليها مبكّره وفي غير زمانها ومكانها ، وان الوقت المناسب لممارسة الحق اليموقراطي لم يأت بعد ، وأننا احوج ما نكون الى مرحلة انتقاليه تُخّرجنا من حالة الأستبداد التي عشناها لعقود ، وأن هذه الحاله ترسّخت في عقولنا وتجذّرت الى درجة اننا لا نستطيع الخلاص منها ، وبدت الأمور وكأننا احوج ما نكون الى عودة الطغاة والمستبدين من امثال "حسني مبارك" و " معمر القذافي " و "زين العابدين بن على " و " علي عبدالله صالح " من جديد للخروج من عنق الزجاجه الذي دخلت فيها الساحة السياسية العربية عموماً والمصرية بشكل خاص .
وصحيح كذلك ان هذه القيادات التي تهاوت كانت دكتاتورية وأنتهازية بأمتياز،وأنها جعلت من تلك البلدان مزارع وأقطاعيات خاصه يستثمرونها لصالحهم وصالح ابناءههم ومقربيهم ، وأنهم نسوا شعوبهم وطغوا وتجبروا لدرجة الأذلال ، ولكنهم زرعوا في تلك الشعوب حالة اليأس والأستسلام والعبوديه لدرجه انه لم يعد ينفع معها وصفة الديموقراطيه ، بعد ان تعايشوا مع مرض الأستبداد ولأجيال خلت وأصبح القمع والتنكيل سِمة من سِمات حياتهم اليوميه .
ولكن غير صحيح بالمقابل ان بعض هذه القيادات التي افرزها الربيع العربي وتحديداً في مصر ، والتي فازت في الأنتخابات الرئاسيه ووصلت الى سدة الحكم بفارق بسيط في عدد الأصوات ، أن نضع امامها العراقيل ولم يمضي على تسلمها مقاليد الأمور اكثر من بضعة اشهر ، وهنا فأنني لا انحاز لا مع المعارضة ولا مع الموالاه ، ولكني انحاز لأرض الكنانه مصر التي احببناها وعشقناها جميعاً ، ليس بسبب موقعها وتاريخها العريق فقط ، بل بسبب رموزها اللذين دخلوا التاريخ وأزعم ان ابرزهم وأعرقهم الرئيس الراحل " جمال عبد الناصر" ، الذي سكن في قلوبنا وقلوب العرب جميعاً ، فعشقناه وعشقنا معه مصر ومعها كل ابنائها ، وعشقنا معهم جميعاً بلاد العروبة وأبنائها كذلك ، بعد ان زرع فينا نحن ابناء هذا الجيل هذا العشق العروبي وهذا الحب الذي عاش معنا ولازمنا في حلنا وترحالنا حتى يومنا هذا .
من هنا فأن قلوبنا وعقولنا مع مصر وأبنائها ،لأن ما يحدث هذه الأيام هو ببساطه اقتتال مصري مصري بالأنابه بسبب صراعات وخلافات ومنافسات عربية عربيه ، وأن حرباً سياسيه بالأنابه تدور رحاها هذه الأيام دونما جدال ، وأن المال السياسي العربي وبدلاً من ان يساهم في تطوير مصر ودعمها وتطويرها يعمل هذه الأيام عَمّلته في ما يجري من احداث وله بصماتة الواضحه والمبرمجه ، وأن الهدف منه هو تخريب مصر اكثر من اي هدف اخر ، والخوف كل الخوف ان يؤدي هذا المال السياسي المتحيّز لحزب ضد اخر او لجماعة ضد اخرى الى تشرذم مصر وتشويه صورتها التي احببناها ورسمناها في قلوبنا وعقولنا منذ عقود، وأن تتحول الساحة المصريه الى تنافس عربي عربي اكثر من تنافس مصري مصري ، وأن يعيد هذا التنافس العربي مصر الى ما لا نريده ولا نتمناه لهذا البلد العظيم والشعب الشقيق ، ونخشى ان تصل الأمور الى حالة الضياع والفلتان وعندها فلا ينفع لا مال ولا احزاب ولا ما يحزنون ، وتضيع مصر ويضيع تاريخها الطويل ويضيع معها العالم العربي ، وتدخل مصر ويدخل معها العرب في متاهات لا نريدها ولا نرضاها ، وكما ان سوريا هي عنوان الحروب كما قيل فأن مصر هي عنوان السلام والأمن العربي كما كانت على الدوام ، فأذا استقرت مصر استقر معها العرب جميعاً ، وأذا تاهت سوريا ودخلت في حالة حرب دخل معها العرب جميعاً ، هذا ما قيل قبل عقود وكل ما اخشاه ان وقته قد حان .