اطلس- أكثر من 800 مدوّنة لبنانية مسجّلة ضمن «البلوغوسفير» اللبناني، بحسب التقديرات غير الرسمية لموقع Lebanonaggregator.org المتخصّص في تجميع روابط المدوّنات اللبنانية.
الرقم ليس صغيراً أبداً مقارنة بعدد سكّان لبنان ومستوى خدمات الإنترنت التي مازالت تصنّف «سيئة» في مناطق لبنانية كثيرة، خصوصاً تلك البعيدة عن العاصمة بيروت.
ويزداد إعداد المدوّنات اللبنانية في شكل سريع، إذ تضاعفت خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ما يشير إلى الاهتمام المتزايد بالتدوين لدى فئة الشباب الذين يجدون أنّ أفكارهم لا تصل كما يريدون عبر وسائل الإعلام التقليدية، كالصحف والإذاعات والمحطّات التلفزيونية. فيتجه هؤلاء نحو العالم الرقمي الذي يحتضن حريتهم ويُفسح لهم المجال واسعاً لقول ما يشاؤون ونقد من يريدون من دون أن تكون هناك مراقبة مباشرة عليهم.
وعلى رغم أنّ ظاهرة التدوين في لبنان لم تلفت الانتباه إليها إلا بدءاً من 2005، إثر اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، فإنها تُعتبر اليوم حقيقة لا يمكن تجاوزها، ولها دورها في تشكيل الرأي العام وتوعيته حول الكثير من القضايا السياسية، الاجتماعية والاقتصادية التي لا تعطيها وسائل الاعلام التقليدية المساحة اللازمة.
ثغرات الاعلام التقليدي
لماذا يدخل آلاف اللبنانيين يومياً الى المدوّنات، فيما المعلومات والأخبار متاحة لهم سواء عبر القنوات المحلية والصحف والاذاعات وحتّى المواقع الالكترونية؟
يعزو متابعو المدوّنات الأمر إلى أنّها تعطيهم مواد مكتوبة أو مصوّرة لا يطّلعون عليها عبر الإعلام التقليدي. وتقول الشابة سوسن خير الدين إن هناك مدوّنات تسمح لها بقراءة آراء سياسية مختلفة عن الواقع الذي يعايشه اللبنانيون يومياً، فهناك مدوّنون يناقشون المواضيع المرتبطة بالدولة المدنية من دون أي «تابوهات» (محرّمات).
وحتّى في مجال آخر غير السياسة، يعبّر المواطن لطيف نمور عن تقديره للمدوّنات التي تنشر، مثلاً، نقداً صريحاً «لا التفافات» فيه عن عمل مسرحي أو فنّي معيّن. ويرى أنّ هناك من يحمل همومه حين يقرأ تدوينات عن الفساد الإداري والمشكلات اليومية التي يعاني منها المواطنون على الطرق وفي أعمالهم وحياتهم الأسرية.
وعليه، لا يتردد نمور في وصف التدوين بأنه «صحافة المواطن». وهنا يكمن سرّ الإقبال الكبير على بعض المدوّنات التي تحاكي اللبنانيين مباشرة. واستخدام كلمة «بعض» وليس «كلّ» يعود الى وجود العديد من المدوّنات التي تستنسخ فقط ما يكتب في الصحف او تنشر مقاطع فيديو من «يوتيوب» من دون أن تقدّم مواد خاصة وحصرية.
المحاسبة ونشر الوعي
أول مدوّنة أنشئت في لبنان كانت trella.org في العام 1998، وهي ما زالت حتّى اليوم ناشطة بثبات في ظلّ الجهود التي يبذلها المدوّن اللبناني عماد بزي. وتضم المدوّنة مواضيع متنوّعة تتميز بقاسم مشترك هو النبرة العالية والجرأة في طرح المواضيع.
يرى بزي أنّ تأثير فضاء التدوين كان محدوداً في السابق لأنّ غالبية المدوّنات كانت اجتماعية أو ثقافية أو متخصّصة في السياحة، كما أنّ غالبية المدوّنين يكتبون بلغات أجنبية. إلا أنّ أهمية التدوين بدأت تظهر مع «انتفاضة الاستقلال» (2005) مروراً بـ»حرب تموز» (2006) وأحداث 7 أيار (مايو) 2008، وصولاً الى ثورات الربيع العربي. فهنا، برزت مجموعة من المدوّنين الذين يتناولون مواضيع سياسية باللغة العربية الفصحى أو العامية. وبدأت هذه المدوّنات تحجز مكانها لدى القراء وبات لها تأثير على الشريحة المتابعة، وخصوصاً شريحة الشباب «الذي ملّ من تعاطي الإعلام التقليدي مع مختلف المواضيع»، كما يقول بزي.
«فالمدوّنات - بحسب المدوّن - تفتح ملفات مغلقة، تحاسب، تنشر الوعي وتدفع الناس الى مناصرة قضايا إجتماعية وسياسية، أسوة بمسار التدوين في مصر وتونس». ويرى بزي أنّ المدوّنات بدأت تساهم في تشكيل رأي عام ضاغط في عدد من القضايا، مثل التعذيب في السجون والفساد في الإدارات العامة والخدمات السيئة لبعض الشركات.
وفي ظلّ الاصطفاف السياسي الحاصل اليوم في لبنان، يُطرح تساؤل بديهي حول قدرة المدوّنين على البقاء خارج هذا الاصطفاف بغية إعطاء وجهة نظر سياسية مختلفة لمتابعي مدوّناتهم. وفي هذا السياق، يلفت بزي الى أنّ هناك شريحة واسعة من المدوّنين مازالوا خارج الاصطفافات، ولها نسبة عالية من المتابعة من جانب المواطنين الذين يجدون فيها متنفّساً خارج الانقسام العمودي.
أمّا المدوّنات غير السياسية، فيؤكد بزي أنّ لها دوراً أساسياً لناحية تناول مواضيع جريئة، كالكنيسة، المرجعيات الاسلامية، الجنس، العنصرية وهموم المواطن المعيشية. وبالتالي فإنّ خطاب المدوّنات مختلف عن الخطاب الخاص بالاعلام التقليدي لجهة التطلع نحو الدولة المدنية والعدالة الاجتماعية.
أقرب الى الشعب
«بلوغ بلدي» blogbaladi.com مدوّنة أخرى تحظى بشعبية كبيرة بسبب التدوينات المتنوّعة فيها. وهناك مشاركة فاعلة من القرّاء على كلّ تدوينة جديدة. ويرى المدوّن نجيب متري، من «بلوغ بلدي»، أنّ هناك كثيراً من المدوّنين الفاعلين الذين أصبحوا صوتاً للكثير من اللبنانيين، وآراؤهم باتت تؤخذ بعين الاعتبار حتّى ضمن الوسائل الاعلامية الأخرى. إلا أنّ التأثير بالنسبة لمتري هو إجتماعي أكثر منه سياسي بحسب تجربته الشخصية، وذلك لأنّ المواطنين يبحثون عن المدوّنين الشفّافين وغير المنحازين سياسياً. ولهذا السبب، فإنّ «بلوغ بلدي» لا يتعاطى بالشؤون السياسية إنما يهتم بشؤون المواطنين ويقوم بالاتصالات اللازمة مع الوزراء ضمن قضايا عالقة لإيجاد حلول لها. وبهذه الطريقة تحفّز المدوّنة مبدأ محاسبة المسؤول على أعماله وليس مواقفه السياسية.
ويلتقي المدوّن إيلي فارس، من بلوغ stateofmind13.com مع ما يقوله متري، لجهة دور المدوّنات في إثارة نقاش ضمن المجتمع وإفساح المجال أمام قراءة آراء متنوّعة ومختلفة. ولفارس رأي سياسي خاص لا يخفيه أبداً، فهو يلفت الانتباه دائماً الى الرأي الآخر أيضاً ويحاول نقد أداء مختلف القوى السياسية. ووفق فارس، حين يناقش أي موضوع يجب ألا تكون النتيجة دائماً بيضاء أو سوداء، إنما هناك دور للمدوّن لجهة إظهار وجود اللون الرمادي أيضاً، بما يمكن عكسه على الحالة السياسية اليوم.
هكذا يتحوّل عالم التدوين اليوم فسحةً للكتابة والقراءة الحرّة، بعيداً من مقصّ الرقيب في لبنان، على رغم أنّ الكثير من المدوّنين يتعرّضون من حين الى آخر لمضايقات أو ضغوط. ومع ذلك، «أصبح هؤلاء بمثابة مالكي وسائل إعلام هم فيها المحرّرون ورؤساء التحرير في الوقت نفسه»، كما يقول بزي، وهنا تكمن لذّة التدوين وقدرته على كسر الأطر والحواجز ليصل الى قلب المواطن وعقله.