الكاتب: هاني المصري
قلتُ لمحدّثي في جلسة ضمّت عددًا من المهتمين بالشأن السياسي: جيدٌ جدًا أنّ أوباما لا يحمل معه مبادرة أثناء زيارته، التي من المتوقع أنها ستبدأ غدًا، فتساءل متعجبًا لماذا؟ فقلت لأن أي مبادرة تقدم من أي رئيس أميركي، وخصوصًا من أوباما الذي جربناه في فترة رئاسته الأولى التي حصدنا فيها الخيبات، وفي ظل الوضع الفلسطيني السيء جدًا، والوضع العربي الأسوأ؛ ستقود إلى تصفية للقضية الفلسطينية بصورة شاملة أو جزئية، بحل نهائي أو مرحلي.
ولو افترضنا جدلًا أن مبادرة أميركية ستطرح حاليًا أو بعد حين، فإنها في أحسن الأحوال ستتضمن بعض الجمل الجيدة للفلسطينيين، مثل الحديث اللفظي عن إقامة دولة فلسطينية، لكنها ستعطي كل شيء لإسرائيل، فالدولة الفلسطينية التي ستحملها ستكون "دولة ليست دولة" وعلى حساب الحقوق الأخرى للفلسطينيين، خاصة حق العودة، وتطبق على يد الحكومة الإسرائيلية الحالية الأكثر تطرفًا واستيطانية من أي حكومة سابقة وفقًا للشروط والمصالح والأهداف الإسرائيلية، التي تقوم على اللاءات الإسرائيلية المعروفة، والتي أضيفت إليها بعد مؤتمر أنابوليس لاء جديدة تتمثل بالاعتراف بإسرائيل كدولة للشعب اليهودي.
إن عدم طرح مبادرة لا يعتبر بحد ذاته شيئًا إيجابيًا، وإنما هو أقل سوءًا، لأن عدم طرح أي مبادرة يعني استمرار الوضع الحالي على ما هو عليه (أكثر أو أقل بقليل)، أي استمرار الاحتلال وتعميقه وتوسيع الاستيطان وخلق حقائق جديدة تجعل أحد الحلول الإسرائيلية قابلًا للتطبيق؛ لكنه يجعل إمكانية فتح الطريق أمام بدائل وخيارات فلسطينية أخرى أكبر.
أصبح من الثابت أن أوباما لا يحمل مبادرة، وهذا يعني رضوخه أكثر للموقف الإسرائيلي، لأنه كلامه عن مجيئه للاستماع مردود عليه، كونه بعد أربع سنوات في البيت الأبيض تعرف على ملف الصراع بكل تفاصيله، بحيث حان الوقت للقرارات التي لا يريد اتخاذها رغم أنها في صالح إسرائيل حتى لا يغضب حكومة نتنياهو. ومع ذلك سيبحث أوباما في زيارته عن نقاط تساعد وزير خارجيته كيري - الذي سيقوم بزيارة مكوكية أوائل نيسان المقبل - على البناء عليها، في سعيه لاستئناف المفاوضات، لأن استئنافها يساعد إسرائيل على تجنب العزلة الدولية وقطع الطريق على اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة تتكاثر نُذُرها باستمرار الجحيم الذي يعيشه الشعب الفلسطيني.
ويمكن أن تستغرق المحاولات الأميركية الوقت اللازم لاستئناف المفاوضات (هناك تقديرات تشير إلى أن الوقت ستة أشهر)، بحيث يرى الرئيس الأميركي بأنه هل من المناسب طرح مبادرة للحل أم لا؟ وإذا طرح مبادرة، فإنها ستهدف إلى الاتفاق على قيام دولة فلسطينية حتى نهاية العام 2014، وهذا ما ذكرته صحيفة "يديعوت أحرونوت" نقلًا عن مصادر أميركية، وما سمعته مصادر فلسطينية وعربية من مصادر أميركية قالت إن كيري سيسعى لإقامة الدولة الفلسطينية في العام القادم، كونه صاحب حلم بأنه سينجح في تحقيق ما عجز عنه أسلافه.
أوباما لن يطرح مبادرة لأن حكومة إسرائيل ترفض تقديم ما يساعد على التوصل إلى حل أو تنازلات ذات مغزى للفلسطينيين، وهو لا يعتزم ممارسة الضغط عليها في الفترة القريبة القادمة، لأنه أخذ العبرة المناسبة من فترة رئاسته الأولى حين تحدث عن وقف الاستيطان، وعن أمله في إقامة دولة فلسطينية في العام 2011، ولم يحصد إلا الفشل والتراجع الذليل أمام نتنياهو.
ولو كان يفكر مجرد تفكير بإطلاق مبادرة عندما فكر بالزيارة لتراجع بسرعة بعد إعلان تشكيل الحكومة الإسرائيلية وبرنامجها الذي يهمش القضية الفلسطينية، وينذر بأننا أمام تصعيد قادم في العدوان وتوسيع الاستيطان ولسنا أمام إحياء "عملية السلام".
بدلًا من تقديم المبادرة ستسعى إدارة أوباما إلى تكثيف الجهود في الفترة القادمة لخلق رأي عام إسرائيلي، من أجل التوصل إلى تسوية من خلال تملق الإسرائيليين بالحديث عن التزامه الحديدي بأمن إسرائيل، واستمرارها كدولة للشعب اليهودي، ومعرفته بتاريخها وإشادته بقيمها، والإشارة إلى أن السلام، خاصة بعد المتغيرات العربية مصلحة إسرائيلية وليست مصلحة أميركية فقط.
وتنطلق الإدارة الأميركية في محاولتها لاستئناف المفاوضات على أساس معادلة تقوم على جملة مما تسميها "خطوات بناء الثقة"، مثل إطلاق سراح أسرى وتجميد جزئي ومؤقت للاستيطان، يستثني القدس والكتل الاستيطانية، مقابل تعهد فلسطيني باستمرار الالتزام ببقايا أوسلو، خصوصًا التنسيق الأمني، وعدم اللجوء إلى محاكمة إسرائيل في المحاكم الدولية، بما في ذلك الانضمام إلى محكمة الجنايات الدولية.
إن خطورة الدخول في مفاوضات ثنائية جديدة برعاية أميركية تتزايد، خصوصًا بعد تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة وبرنامجها، وبعد ما قاله بني غانتس، رئيس أركان جيش الاحتلال، مؤخرًا في مؤتمر هرتسيليا حول المسألة الفلسطينية، بأنها لم تعد مسألة محورية تستحق الاهتمام بل مسألة هامشية، لأن هناك تطورات محورية أولى بالاهتمام تشهدها المنطقة، مثل الملف الإيراني وانهيار بعض الدول مثل سوريا، حيث ما يجري انهيارًا وليس تغييرًا وفق زعمه.
وأضاف غانتس "بأن الوضع الإقليمي والدولي الجديد يسمح لأول مرة بإعادة هندسة الجغرافيا والديمغرافيا في المنطقة، بما يتيح توطين جميع الفلسطينيين الذين سيتم تهجيرهم، بما فيهم العرب في إسرائيل والضفة الغربية، في الدول العربية"، و"أن الوضع الدولي تغير ولن يقود إلى وصم إسرائيل بالعنصرية إذا عملت على إشهار هويتها اليهودية"، وقال بأن عدد الفلسطينيين الذين سيُهجّرون "طواعية" يمكن احتماله، لأنه سيكون أقل من نصف المهجرين من العراقيين والسوريين وغيرهم.
تأسيسًا على ما سبق، فإن الخطر لا يكمن فقط في استئناف المفاوضات، وإنما في استمرار الوضع الحالي من دون إستراتيجية فلسطينية عربية جديدة، وفي ظل استمرار الرهان على إحياء "عملية السلام" الميتة منذ زمن بعيد، ولا يؤدي انتظار إحياء الميت بدلًا من دفنه سوى إلى إضاعة الوقت والاستمرار في اتباع سياسة انتظارية لن تؤدي إلا إلى تهميش القضية الفلسطينية، وتآكل شرعية المؤسسات المختلفة في المنظمة والسلطة والفصائل، سواء التي تنضوي في إطار المنظمة أو خارجها، لأن لا شرعية حقيقية لمن لا يطرح إستراتيجية تحظى بالقبول الشعبي وقادرة على الانتصار، ولمن علّق إستراتيجية المقاومة حتى إشعار آخر، ولمن وصلت إستراتيجيته المعتمدة (إستراتيجية المفاوضات) منذ أكثر من عشرين عامًا إلى طريق مسدود من دون أن يجرؤ على الاعتراف بذلك، وتحمل عواقب هذا الاعتراف من ضرورة تغيير المسار أو ترك الدفة لمن قادر على تغيير المسار.
فلا شرعية لأحد من دون مقاومة وفي ظل عدم إجراء الانتخابات، بالرغم من انقضاء الفترة القانونية للرئيس وللمجلس التشريعي، وعدم عقد المجلس الوطني ولا تجديده ولا إعادة انتخابه، ولا شرعية من دون توافق وطني على برنامج قواسم وطنية مشتركة.
لا يوجد طريق إلا بوجود الإرادة التي تملك الجرأة للاعتراف بأن الإستراتيجيات المعتمدة سابقًا فشلت، وأن الشعب الفلسطيني قادر على امتلاك إستراتيجيات جديدة قادرة على النصر، من خلال اتباع مسار جديد يوفر مقومات البقاء والصمود للشعب الفلسطيني على أرضه ولقضيته الحية، ويستعد للمجابهة بتوفير شروطها من خلال الوحدة والشراكة في إطار جبهة وطنية تمثلها منظمة التحرير بعد إعادة تشكيلها، بحيث تسعى لامتلاك أوراق وأسباب القوة القادرة على تغيير موازين القوى، بحيث تصل شيئًا فشيئًا إلى وضع تجد إسرائيل نفسها فيه مرغمة على الانسحاب والاتفاق على تسوية تحقق للفلسطينيين الحد الأدنى من حقوقهم، أو مواجهة صراع مفتوح سينتهي في نهاية الأمر بهزيمة لإسرائيل لا تقوم لها قائمة بعدها.
إسرائيل تراهن على أن ما يجري في المنطقة كما قال "غانتس" سيمكنها من لعب دور مهيمن فيها، أو أن تساهم في دور أساسي مع الدول الإقليمية والدولية التي تسعى للهيمنة عليها، فهي تستطيع، إن لم يتغير الموقف والوضع الفلسطيني والعربي بسرعة وقبل فوات الأوان، تنفيذ مشروعها بإقامة دولة يهودية بصورة أفضل إذا انقسم العرب إلى طوائف ودول مجزأة أكثر ما كانت عليه، وإلى علمانيين ومتدينين، ومسلمين ومسيحيين، وإسلام معتدل وإسلام متطرف، وإلى سنة وشيعة، ودروز وبربر وعلويين وأكراد وشركس وأرمن وتركمان.