الكاتب: حيدر عيد
على الرغم من الرقابة الحازمة التي تفرضها بعض وسائل الإعلام الفلسطينية، ، على بيانات وأخبار ومقالات حركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS)، ومن ضمنها الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل، ، إلا أن المقالات التي تكيل الاتهامات – جزافاً ودون سند في معظم الأحيان -- لحركة مقاطعة إسرائيل تُنشَر بكل ترحاب.
ويتراوح النقد الوارد في هذه المقالات ما بين نعت الحملة بـ"الاستبدادية"، أو "السذاجة"، أو"الانتقائية" في المعايير، أو "غياب البعد الاستراتيجي" في استخدام أدوات النضال الوطني. آخر هذه المقالات كانت مقالة السيد عمر القطان في صحيفة الأيام. رغم الادعاءات المغلوطة والاستنتاجات غير المنطقية الواردة في المقالة، إلا إننا كنا ولا زلنا نرحب بصدور واسعة وعقول منفتحة بكل ما من شأنه أن يوسع دائرة الحوار المجتمعي الفلسطيني حول معايير ومبادئ واستراتيجيات حركة مقاطعة إسرائيل. فقد رحبت حملة المقاطعة بالمشاركة الفاعلة لعدد كبير من المثقفين/ات والفنانين/ات الفلسطينيين في لقاءاتنا العديدة التي طورنا فيها معايير المقاطعة، حيث أدلوا بآرائهم ونقدهم بشكل بنّاء، بدل اللجوء للهجوم على صفحات الجرائد التي تمارس الرقابة وتمنعنا من الرد.
على كل حال، ومن منطلق حرصنا على الحوار، نحاول هنا الرد على أهم المغالطات الواردة في مقالة السيد القطان وشرح مبادئ ومنطق وأهداف واستراتيجيات حركة مقاطعة إسرائيل.
أولاً: تدّعي المَقالة بأن هناك تناقضاً ما بين ارتباط الفلسطينيين بالمجتمع الإسرائيلي واقتصاده وجهاز دولته من جهة وبين مطالبة الفلسطينيين بمقاطعة إسرائيل اقتصادياً وحث الأكاديميين والمثقفين على عدم المشاركة في نشاطات أو عروض في دولة الاحتلال ومع الإسرائيليين من جهة أخرى.
إننا في دعوتنا لمقاطعة إسرائيل ومؤسساتها ننطلق من ضرورتين مرتبطتين عضوياً: تصعيد المقاومة الشعبية والأهلية في الداخل الفلسطيني وإحداث شرخ في علاقة التبعية المفروضة على شعبنا من قبل دولة الاحتلال من جهة، وعزل إسرائيل ومؤسساتها دولياً على كافة الصعد، الاقتصادية والأكاديمية والثقافية والمالية، كما حدث مع نظام الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، لإجبارها على الانصياع للقانون الدولي ولحقوق شعبنا، كل شعبنا، غير القابلة للتصرف. ومع أننا نتفق بأن الاحتلال والابارتهايد الإسرائيلي القائم منذ عقود يملي قسراً على شعبنا، سواء المتواجد في أراضي 48 أو 67، مع اختلاف الظروف السياسية والمعيشية لكل منهما، التعامل في العديد من مناحي الحياة مع السلطات والمؤسسات وحتى الشركات الإسرائيلية، إلا أننا نرى ذلك جزءاً من سياق الهيمنة الاستعمارية والأبارتهايد الإسرائيلي ضد شعبنا، ونميّز ما بين العلاقات القسرية مع الاحتلال والعلاقات الطوعية التي تصبّ في خدمة مشروعه الاستعماري وآلة البروباغاندا التي تسهم بقوة في تلميع وجه هذا المشروع. قد لا يستطيع المرء أن يقلل من استنشاقه للهواء الملوّث في مكان سكناه، ولكن لا يعني ذلك أنه غير قادر على وقف التدخين، مثلاً، فالأخير يعتمد بالأساس على إرادته، بينما يرتبط الأول بعوامل خارجية وداخلية في آن، مما يتطلب أكثر من مجرد الإرادة الفردية لتغييره.
لقد عملت إسرائيل جاهدة منذ احتلالها للضفة والقطاع عام 1967 على تدمير وإعاقة نمو مقومات الاقتصاد الفلسطيني المستقل (بالذات في المجال الزراعي والصناعي والتجاري والمالي)، مما حول الضفة والقطاع إلى اقتصاد تابع لدولة الاحتلال، حتى بعد اتفاقية أوسلو (وباريس) وقشور "الاستقلالية" التي ادعت توفيرها. ولكن هذا لا يعني بالضرورة قبول التبعية الثقافية والأكاديمية لإسرائيل ومؤسساتها. حتى في أراضي 48، حيث يضطر شعبنا الفلسطيني هناك أكثر من أي جزء آخر من شعبنا للتعامل اليومي مع مؤسسات الدولة وشركاتها، تمكنت حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل بعد أكثر من عامين من الورشات والمناظرات والاجتماعات الميدانية مع عشرات المثقفين/ات والفنانين/ات والناشطين/ات والأكاديميين/ات من تطوير معايير مقاطعة خاصة بأراضي 48، تنطلق من فهم واقع اضطهاد شعبنا هناك وإمكانة مساهمته في حركة المقاطعة العالمية بمبادئ واضحة رغم ذلك.
فلا يستطيع أبناء شعبنا في أراضي 48، مثلاً، أن يقاطعوا المنتجات أو المستشفيات أو الجامعات أو المؤسسات الحكومية الإسرائيلية، لأسباب بديهية، إلا أن ذلك لا يعني عدم قدرتهم على رفض المشاركة في المهرجانات والأنشطة الدولية التي تقيمها إسرائيل ومؤسساتها والتي تخضع للمقاطعة الدولية، إذ أن مشاركتهم فيها تستغل بالضرورة كورقة توت لتغطية جرائم إسرائيل ولتقويض المقاطعة الدولية. وهذا ربما ما اعترف به السيد القطان في مقالته حين خطّأ إصراره على المشاركة في مهرجان حيفا السينمائي قبل سنين، رغم كل مناشداتنا له بعدم المشاركة في حينه ورغم انسحاب جميع المخرجين الفلسطينيين الآخرين، تقريباً، من المهرجان احتراماً لمبدأ المقاطعة الثقافية لإسرائيل. فقد استغل القائمون على ذلك المهرجان، وعلى رأسهم الراعي الرئيسي وزارة الثقافة الإسرائيلية بقيادة ليمور ليفنات آنذاك، مشاركة فيلم فلسطيني في المهرجان لاتهام المقاطعين من المخرجين الدوليين، وأهمهم المخرج البريطاني الشهير كين لوتش، بأنهم يحاولون أن يكونوا "فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين أنفسهم".
بالتأكيد تختلف الظروف، وبالتالي معايير المقاطعة، من موقع إلى آخر، إلا إن المنطق الأساسي لحركة المقاطعة يبقى واحداً، وهو تفعيل وتعزيز كافة أشكال الضغط المتاحة على إسرائيل والمؤسسات والشركات المتواطئة في اضطهادها المركّب لشعبنا، بما يراعي خصوصية السياق في كل موقع ويضمن الاستدامة والفاعلية، من أجل استعادة الحقوق الأساسية لشعبنا وأهمها التحرر والعودة إلى الديار وممارسة حقنا غير القابل للتصرف في تقرير مصيرنا على أرضنا. من هذا المنحى، فإن مقاطعة إسرائيل هي استراتيجية رئيسية في مقاومتنا للاحتلال والأبارتهايد الإسرائيلي، تهدف إلى عزل إسرائيل دولياً ومقاومتها داخلياً وعربياً لتعديل موازين القوى لصالح شعبنا ونضالنا من أجل حقوقنا. لا يمكن القيام بذلك دون فك التبعية واستهداف التطبيع [3] بأشكاله والتزام مثقفينا وفنانينا، قبل غيرهم، بقطع كل العلاقات الطوعية التي تسهم، بغض النظر عن نواياهم، في تعزيز الهيمنة الإسرائيلية وصورة "الحالة الطبيعة" التي تروجها إسرائيل دولياً.
لقد راجت منذ توقيع اتفاقية أوسلو مشاريع التطبيع الثقافي والأكاديمي بأشكالها، تحت إطار "فهم الآخر" أو "إقناع الرأي العام الإسرائيلي بحقوقنا"، إلا أن تجارب كثير من المشاركين في هذه الحوارات والبرامج أكدت على أن هذه المشاريع المشتركة لم تكن مجرد "غير مفيدة" لنضالنا، بل لعبت دوراً هاماً في خلق انطباع عن إسرائيل عالمياً بانها تسعى جادة للسلام، مما أضعف محاولات مقاطعة إسرائيل عالمياً وعربياً [4]. فإسرائيل اعتمدت على هذه العلاقات والنشاطات التطبيعية لتبييض صفحاتها الإجرامية أمام العالم ولترويج صورة زائفة لنفسها على أنها دولة ديمقراطية وطبيعية. كما أنها لم تساهم في خلق حالة من الضغط من قبل المشاركين الإسرائيليين على مؤسساتهم السياسية والعسكرية، بل وفرت لهم/ن حالة من الرضي عن النفس وكأنهم يساهمون في مواجهة الاحتلال بمجرد لقائهم نظرائهم الفلسطينيين و"الحوار" حول قضايا مشتركة أو حول تحسين الاحتلال، مع تفادي الحديث "غير البنّاء" عن العدالة وحقوق شعبنا.
ثانيا: تُثير المَقالة حجة غريبة نوعاً ما لا بد من التوقف عندها، وهي أن كون اللجنة الوطنية للمقاطعة، والتي تقود الحركة العالمية لمقاطعة إسرائيل (BDS) لم تنتخب ديمقراطياً من الشعب الفلسطيني فلا أحد يعرف مدى تأييد الشعب لها في نضالها من أجل فرض العزلة الدولية على إسرائيل. بداية، تخلط المَقالة بين حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل واللجنة الوطنية للمقاطعة وتدعي أن BDS هي "رديفة" عالمية لحملة المقاطعة الفلسطينية! لذا اقتضى التوضيح. انطلقت الحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل عام 2004، ولعبت دوراً رئيسياً في إطلاق نداء المجتمع المدني الفلسطيني عام 2005 لمقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS). انبثقت اللجنة الوطنية للمقاطعة عن المؤتمر الوطني الفلسطيني الأول لحركة مقاطعة إسرائيل عام 2007، وأصبحت منذ ذلك الوقت تقود حركة المقاطعة عالمياً. تتشكل اللجنة الوطنية للمقاطعة من القوى والاتحادات الشعبية الكبيرة (العمال، المرأة، الكتاب، الفلاحين، إلخ) وجميع الاتحادات النقابية والائتلاف العالمي لحق العودة (أوسع ائتلاف يدافع عن حقوق اللاجئين) وشبكات المؤسسات الأهلية وغيرها من أهم وأكبر الأطر التي تمثل كل قطاعات شعبنا في الوطن والشتات. إن هذا التحالف، وهو الأوسع فلسطينياً دون منازع، لا يمثل شعبنا الفلسطيني سياسياً، بل بالتأكيد يستيطع التحدث باسمه فيما يتعلق باستراتيجية مقاطعة إسرائيل وأهدافها: إنهاء الاحتلال وإنهاء الأبارتهايد وتمكين ممارسة حق العودة إلى الديار.
لم نسمع من قبل بأن هكذا تمثيل لشعب يرزح تحت الاحتلال والأبارتهايد يحتاج لصناديق اقتراع لتثبيته. ففي ظل الاحتلال والاضطهاد الإسرائيلي المركب لشعبنا، وتشتت شعبنا بين أراضي 48 و67 والمنافي، نرى أن المقاومة بأشكالها وبالذات الشعبية والأهلية (بما فيها الثقافية) لا يمكن الحكم على شعبيتها من خلال الانتخابات بل من خلال مؤشرات ومقاييس مختلفة تراعي ظرف الاحتلال. فحركات المقاومة في فلسطين وخارجها تتكون بالكامل تقريباً من متطوعين أخذوا على عاتقهم مقاومة الظلم والاستعمار إما عن طريق الكفاح المسلح أو المقاومة الشعبية أو الاثنين معا. فمَن من حركات المقاومة حول العالم أو على مر التاريخ الإنساني كانت "منتخبة"؟ هل كانت الجبهة الديمقراطية المتحدة في جنوب أفريقيا التي قادت النضال الشعبي ووجهت حملة المقاطعة العالمية ضد نظام الأبارتهايد منتخبة؟ وهل يمكننا التشكيك، على سبيل المثال، في مصداقية أو تمثيل المقاومة الشعبية للاحتلال الألماني لأوروبا؟ وهل نعتبر الحركة الاسيرة الفلسطينية، كونها غير منتخبة، غير قادرة على التحدث باسم شعبنا فيما يتعلق بواقع الأسر والنضال من إجل حرية الأسرى؟ إن تواجد واستمرارية المجتمع المدني تحت الاحتلال هو جزء من تواجد الشعب الفلسطيني واستمراره وتمثيل رأيه، وأدوات المقاومة التي يطورها هذا القطاع هي جزء لا يتجزأ من نضال هذا الشعب. لا يسعنا هنا إلا أن نسأل، من له مصداقية أكثر في تطوير معايير مقاطعة إسرائيل، تحالف معظم قوى ومؤسسات ونقابات وأطر المجتمع الفلسطيني في الوطن والشتات أم مثقف فرد، سواء كان في الوطن أو الشتات؟
هل من الأفضل أن يضع كل منا معاييره الخاصة، والمنحازة بالضرورة، مما يعني قيام كل فرد بما يحلو له لأنه يعتبر التطبيع فقط ما يفعله غيره، بينما ما يقوم به هو فنضال بالتعريف كون هدفه نبيل؟ إن رفض فكرة المبادئ التي يتم التوصل لها جماعياً كمرجعية للجميع في حسم الاختلافات والإصرار على مرجعية الفرد، كل فرد، هو بمثابة رفض فكرة المقاومة، كل مقاومة، جماعية للاحتلال والابارتهايد ورفض لأسس العمل المجتمعي من أجل التحرر والتقدم سياسياً واجتماعياً وثقافياً.
أما بالنسبة للالتزام بتطبيق أشكال المقاطعة المختلفة، فإن هذه الحملة كأي أداة مقاومة أخرى تحتاج إلى الوقت والجهد والحوار والإقناع والتصحيح من حين إلى آخر والتطوير المستمر لترسيخ جذورها في الأرض ولخلق تراكم فعلي في نتائجها الملموسة، خاصة أنها تستهدف محلياً تفكيك علاقة اقتصادية وثقافية عملت اسرائيل جاهدة على مدى عقود على نسجها بشكل محكم. إن التأييد الشعبي لمقاطعة إسرائيل يتجلى لا في التأييد العلني للغالبية الساحقة من أطر شعبنا لهذه المقاطعة وحسب، بل في انحسار ظاهرة التطبيع الثقافي والأكاديمي في فئة صغيرة للغاية، تكاد تكون معزولة جماهيرياً. كما تتجلى في انخراط عدد متنام بتسارع من شعبنا في مطالبة العالم بمقاطعة إسرائيل في شتى المجالات وفي فرحة قطاعات واسعة من شعبنا، بالذات المُعبّر عنها في وسائل "الإعلام الاجتماعي"، كلما نجحنا في إفشال نشاط إسرائيلي أو في امتناع كاتبة عالمية، مثلاً، عن طباعة كتابها من قبل دار نشر إسرائيلية أو في إلغاء مخرج عالمي مشاركته في مهرجان سينمائي إسرائيلي، إلخ.
ثالثاً: تستخدم المَقالة مفردات "التخويف" و"الفرض" و"القمع" في وصف آلية عمل حركة المقاطعة، مما يعكس ضحالة فهم هذه الآلية على أرض الواقع وإهمال كم هائل من الدلائل التي تثبت زيف هذا الادعاء، بل وتثبت أن المقصود من توجيهه هو التبرير للخروج عن مبادئ المقاطعة المقرة من قبل غالبية أطر مجتمعنا. إن أي باحث في مسيرة حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات منذ 2005 يستطيع بسهولة أن يفهم الطبيعة الجماعية المميزة في آلية عمل الحركة وأن القوة الوحيدة التي تمتلكها لمواجهة التطبيع ولفرض العزلة على إسرائيل هي القوة الأخلاقية التي تنبع من قناعة بفك الارتباط مع دولة الاحتلال والأبارتهايد ومؤسساتها.
بالتأكيد لا يمكن لأي شخص أو مؤسسة أو حتى تحالف واسع من الأطر المجتمعية أن "يجبر" أحداً على الالتزام بمعايير المقاطعة. كما لا يمكن لأي أحد أيضا بالضرورة أن ينفي حق أطر شعبنا في تطوير استراتيجيات مقاومة جماعية خلاقة، من ضمنها حركة مقاطعة إسرائيل، فهذا أيضا جزء من ممارسة الحرية الفردية، كما هو واجب في ظل الاضطهاد الاستعماري لشعبنا. كما لا يستطيع أحد أن يمنع حركة المقاطعة من توجيه النقد المبدئي لأي شكل من أشكال التطبيع أو تقويض حملات مقاطعة عينية.
إن حركة مقاطعة إسرائيل، رغم شعبيتها الواسعة، لم ولن تنصّب نفسها وصية على وطنية أحد، فأعضاء الحركة هم متطوعون ونشطاء في هذا الشكل من أشكال المقاومة، لا أكثر من ذلك. وقد تم التوافق بين أكبر أطر ومؤسسات المجتمع المدني على تفعيل المقاطعة من خلال مجموعة من المعايير التي تهدف إلى خلق قاسم مشترك مقبول وواقعي يلتزم به الفلسطينيون كوسيلة للضغط على اسرائيل. وترى حركة المقاطعة أن من دورها نشر هذه المعايير والرد على استفسارات الجمهور والشركاء العالميين بخصوصها ومواجهة محاولات خرقها، سواء من قبل فلسطينيين أو عرب أو دوليين، بأسلوب أخلاقي يستند دائماً إلى المعايير الجماعية المنشورة، لا على الآراء والمشاعر الفردية لهذا الناشط أو ذاك. وفي الآونة الأخيرة، تلقت الحركة عدداً هائلاً من الاستفسارات من قبل الفنانين والمثقفين والأكاديميين والطلبة وحتى العاملين في قطاع الأعمال، كما من المؤسسات المختلفة حول معايير المقاطعة وتفسيراتها في سياق مشاريع عينية، مما يعكس احترام عدد كبير جداً لهذه المعايير ولمرجعية اللجنة الوطنية للمقاطعة، ومن ضمنها حملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية.
من هنا تأتي قضية الكاتب الجزائري-الفرنسي المعروف، محمد القاسمي، التي تشير إليها المَقالة بادعاءات عارية تماماً عن الصحة. فحملة المقاطعة الأكاديمية والثقافية لم تصدر أية تهديدات لأحد ولم تتهم الأستاذ القاسمي بشيء. فقد وصلت رسالة إلى الحملة تعلمها بأن الاستاذ القاسمي سيشارك في نشاطات ثقافية محلية وأنه كان قد شارك في نشاطات "تطبيع" مع اسرائيليين في السابق، وبالتالي تتساءل إن كان استقبال المؤسسات المحلية له يعد خرقاً لمعايير مواجهة التطبيع. وقد كان رد الحملة أنه إن صحّت المعلومات بخصوص مشاركة السيد القاسمي تحديداً في احتفال مئوية تل أبيب، فهذه المشاركة تعد تطبيعاً بالتأكيد ويصبح على أساسها استقباله محلياً منافياً لمعايير المقاطعة. وبعد الاستفسار من محمد القاسمي مباشرة، والذي لحقه اجتماع به، بمبادرة مشكورة منه، توصلنا إلى أن الادعاء غير صحيح وأن السيد القاسمي لم يشارك في تلك الاحتفالية ولا أعطى مسرحاً إسرائيلياً الحق في عرض إحدى مسرحياته التي كتبها. كما نرحب بموقف السيد القاسمي الملتزم بمعايير المقاطعة الثقافية لإسرائيل.
رابعاً: تخلط المَقالة بين الحقائق والروايات الصحفية المنقولة، دون قصد، من أجهزة الدعاية الإسرائيلية المناهضة لحركة المقاطعة. فليس للحملة أي علاقة بالانتقادات التي وجهت للشاعر الفلسطيني المرموق إبراهيم نصر الله، وبالتأكيد لا علاقة للحملة باتهام شاعرنا الراحل محمود درويش بالتطبيع حين زار حيفا! بل نفخر بأن درويش كان على رأس الموقعين على نداء أصدرناه لمقاطعة احتفالات إسرائيل في الذكرى الستين لتأسيسها على أنقاض شعبنا، مما شجع عشرات المثقفين العالميين للتوقيع على النداء، الذي نجحنا في إصداره كإعلان مدفوع الأجر في نصف صفحة في صحيفة إنترناشيونال هيرالد تريبيون ذائعة الصيت [5].
أما بالنسبة للمايسترو الإسرائيلي المشهور دانيال بارينباوم، فقد أصدر كل من الاتحاد العام للكتاب والأدباء الفلسطينيين وبيت الشعر الفلسطيني والحملة الفلسطينية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل وغيرهم بياناً حول آرائه ومواقفه والضرر الذي تلحقه بنضالنا، جاء فيه:
إن مواقف بارينباوم السياسية من القضية الفلسطينية، رغم تصريحاته المتكررة ضد احتلال 1967، هي لا-أخلاقية، بل وتتماهى مع الثقافة الصهيونية السائدة في إسرائيل. وقد حاول تسويقها منذ قرابة عقدين بغطاء السعي لـ"ثقافة السلام"، دون ذكر للعدالة ولحق شعبنا في تقرير المصير. ولعل من أكثر مواقف بارينباروم صهيونية: دفاعه عن قادة الحركة الصهيونية وعلاقته المتميزة ببعضهم من أمثال بن غويرون؛ موازاته دائماً بين الجلاد الإسرائيلي والضحية الفلسطينية؛ إعفاؤه إسرائيل من مسؤوليتها التاريخية عن نكبة الفلسطينيين وما نتج عنها من حرمان للشعب الفلسطيني من حقه في تقرير المصير؛ ازدواجية مواقفه وتصريحاته في الساحتين الفلسطينية والإسرائيلية؛ إسقاطه لقضية اللاجئين الفلسطينيين وحقهم في العودة من قاموسه بشكل قاطع؛ دفاعه عن حق إسرائيل "البديهي" في "الدفاع عن نفسها" وترديده، أثناء الحرب العدوانية على غزة، للبروبوغاندا الإسرائيلية الرسمية التي تفرق بين الشعب والمقاومة وتسم المقاومة الفلسطينية-التي أجازتها معاهدة جنيف الرابعة للشعب الفلسطيني كما أجازتها لكل الشعوب الواقعة تحت الاحتلال- بالإرهاب[6]؛ تبني المقولات الإسرائيلية الرسمية المسيئة بحق القائد الشهيد ياسر عرفات ومسؤوليته عن الصراع، حيث اعتبره العثرة الأهم في طريق السلام، وكتب عنه بعد أيام من استشهاده ما يلي: "ربما كان عرفات عبقرياً، وبلا شك أسطورة حية، وبكل تأكيد إرهابي. في كل الأحوال، كان مستبداً. الخميس الفائت، توفي في باريس. ابتداءً من اليوم، الصرخة من أجل السلام في الشرق الأوسط يجب أن تصبح الآن: ’مات الحاكم المطلق! عاش الشعب!‘" [7]
أما الكاتبة المعروفة نادين جورديمر، وعلى الرغم من أنها من جنوب أفريقيا، إلا إنها تجاهلت كل الرسائل التي وجهت لها من قبلنا ومن قبل حلفائنا [8] وأصرّت على خرق معايير المقاطعة الثقافية الفلسطينية لإسرائيل، بل ومنحت الشرعية لمعرض كتاب صهيوني بامتياز من خلال حضورها احتفالات مرور ستين سنة على تأسيس اسرائيل، أي نكبة شعبنا. وقد قام العديد من الكتاب والادباء والشخصيات في فلسطين وجنوب افريقيا وحول العالم بالكتابة لها وتذكيرها كيف كانت تهاجم أي من الأدباء العالميين الذين كانوا يخرقون معايير المقاطعة الثقافية ضد نظام الفصل العنصري، فلماذا تناقض نفسها الآن و تمنح الشرعية لنظام الابرتهايد الاسرائيلي؟ [9]
وكما ذكر المطران دزموند توتو، وهو ممن قادوا النضال ضد الأبارتهايد في جنوب أفريقيا، في معرض تأييده لحركة مقاطعة إسرائيل وسحب الاستثمارات منها وفرض العقوبات عليها (BDS):
"تماما كما قلنا خلال حقبة الفصل العنصري أنه من غير الملائم لفنانين عالميين تقديم عروض في جنوب أفريقيا، في مجتمع يقوم على قوانين تمييزية وإقصائية عنصرية، سيكون من الخطأ لأوبرا كيب تاون أن تقيم حفلاً في إسرائيل".[10]
حملة المقاطعة الفلسطينية لإسرائيل لا تؤمن بـ"القوائم السوداء" ولا تخوّن أحداً، كما لا تمنح الأوسمة لأحد، ولكنها تناضل من أجل توسيع دائرة التأييد الفلسطيني والعربي والدولية لمقاطعة إسرائيل في كافة المجالات للمساهمة في الوصول إلى حقوقنا، دون انتقاص. تقف في صف هذه الحركة الغالبية العظمى من الأدباء والفنانين والأكاديميين الفلسطينيين وعدد مهم من نظرائهم العالميين. فعلى سبيل المثال، امتنعت الكاتبة الامريكية أليس ووكر عن ترجمة كتابها "اللون البنفسجي" إلى العبرية من خلال دار نشر اسرائيلية دعماً لمقاومتنا لاسرائيل وحتى تعترف اسرائيل بحقوقنا غير المنقوصة. كما قامت كل من انجيلا ديفيز وجوديث بلتر ونعومي كلاين بالوقوف في صف المقاطعة بشكل واضح. أما في عالم الموسيقى، فامتنع روجر واترز، وغيل سكوت هارن، وفرقة البيكسيز وألفيس كاستلو وسنوب دوج وستيفي وندر وعشرات غيرهم عن المشاركة في أنشطة إسرائيلية، احتراماً لمعايير المقاطعة الفلسطينية . في هذا السياق، تتنامى الحاجة لتعزيز الالتفاف الجماهيري الفلسطينية والعربي الواسع لمقاطعة إسرائيل ومعايير هذه المقاطعة، كما تزداد الحاجة لمشاركة كل مثقفينا وفنانينا لا في نشر ثقافة المقاطعة فحسب، بل والمساهمة الفاعلة والإيجابية في سيرورة تطوير معايير المقاطعة باستمرار للتلاءم مع الواقع المتغير وضرورات النضال من أجل الحرية والعدالة.