اطلس- من شرفة مستشفى الأوغستا فكتوريا ( المطلع) في القدس، أخذت ولعدة أيام متتالية، أراقب سربا من الغربان، يهبط على السطح القرميدي للقصر العريق، وينتقل منه الى برج كنيسة القصر، الذي يعلوه هرم قرميدي
وفوق الهرم كرة نحاسية فوقها مانعة صواعق مدببة الرأس، تبدو وكأنها " خازوق" ربما يشكل رأسه أعلى نقطة في مدينة القدس، الغربان تتجمع على زوايا البرج الأربع، بينما يطير أحدها ليمسك بمنقاره قمة هذا الخازوق ويرفرف بجناحيه بصورة استعراضية، تبدو وكأنها عملية زهو يلفت بها انتباه الاناث، أو عملية استعراض للقوة، واثبات أنه زعيم هذا السرب.
غراب آخر طار واقترب منه، محاولا إزاحته ليحل مكانه، فيحاول الغراب الزعيم أن يبعده بزيادة رفرفة جناحيه ، أو الطيران نحوه، ليعود الى مكانه ويمسك بمنقاره هذا " الخازوق" وكأنه يريد أن يقول : أنا الأقوى.. أنا الزعيم.. أنا القائد، لكن الغراب الثاني لا يكل عن المحاولة، وينجح أحيانا في اغتنام فرصة ليمسك بمنقاره هذا الرأس المدبب، لكن الغراب الأول ينقض عليه ليبعده، وكأنه يريد أن يقول له : لا أسمح لك بأن تأخذ مكاني ...
ربما يكون سرب الغربان هذا هو نفس السرب الذي يعشش في حرش دير وفندق " أبونا ابراهيم" في رأس العمود، والذي يوقظني نعيقه يوميا، وأراقبه وأنا أشرب قهوة الصباح في بلكونة منزلي المطلة على القدس، هذا السرب الذي يبحث عن طعامه قرب حاوية القمامة، فإذا ما وجد أحدهم شيئا من الطعام حمله الى سطح المنزل المجاور ليلتهمه، ويحاول بعض الغربان أن يشاركه في طعامه، لكنه ينهرهم ويبعدهم، أو يحمل غنيمته يطير بها مبتعدا عنهم.. هذا السرب يبدو أنه يتنزه آخر النهار في قمة جبل الزيتون، في مستشفى المطلع ! ويجعلني أسرح مع خيالي متصورا أن هذا السرب هو زعماء العالم، يتنافسون على الطعام، ويتمسكون بالبقاء على القمة، ويتصارعون بينهم على زعامة عالم البشر، كما يتصارع هذان الغرابان على زعامة عالم الغربان!!
لقد رأيت في هذين الغرابين صورة هتلر وتشرتشل في الأربعينات من القرن المنصرم، صورة خروتشوف وكيندي في اوائل الستينات، وصورة بوتين وأوباما هذه الأيام.. ولئن كنا نحن العرب نتشائم من الغربان، فإن شعوبا أخرى تتفائل بها، لكن الغربان على أي حال، تقلق مضاجعنا وتجعلنا نستيقظ على نعيقها، لنراها كل يوم تتصارع على الزعامة، كل غراب منهم في صراع داخلي وصراع خارجي ، ليمسك بمنقاره هذا " الخازوق" ويرفرف مختالا فوق القمة!!
لست أدري لماذا سرحت مع الخيال وأنا أكتب مقالا لوداع عام 2014، الذي لم نر الخير فيه أبدا، لكننا رأينا الصراعات، للبقاء فوق " خازوق" القمم، ورأينا فيه نعيق وسائل الإعلام التي تجعل الحق باطلا، والباطل حقا .. رأينا فيه غزة تهدم ويقتل المئات من أبنائها، والعالم يتفرج عليها، ورأينا مشرديها لا زالوا في الخيام أو في سقائف من الصفيح، وسمعنا عن أموال اعادة اعمار لها لكننا لم نراها، بل رأينا على العكس أسعار النفط تتهاوى ليسرقوا المال العربي مرة أخرى .. حتى يجد العرب مبررا لعدم دفع التزاماتهم نحو اعادة الإعمار!
رأينا الحصار يستمر، ليبقى معبر رفح مغلقا بعد هدم الأنفاق، وليبقى مصير غزة وتزويدها باحتياجاتها، رهينة بيد الاسرائيليين، الذين يقولون لأهل غزة، نحن من يقتلكم ونحن من يمرر لكم رمق الحياة !
عام يرحل عنا، ورأينا فيه تشويه صورة الاسلام مرة أخرى على يد داعش، التي " ربربوها" للإساءة الى الاسلام، وتصويره بأنه دين القتل وقطع الرؤوس، فهكذا تنعق الغربان المأجورة!
عام يرحل وسوريا في أسوأ حال، صلتوا عليها كل حثالات العالم ، يتقاتلون ، ولكل هدفه، ولا أحد فيهم معني بعروبة أو إسلام أو وطنية، وانما لكل غرضه وهدفه في أن يكون على رأس " الخازوق"
عام رحل وليبيا تتصارع مع نفسها في ظل نهب واضح لثروتها، وتمزيق واضح لشعبها، وكذلك الحال في اليمن، في صراع سني يزيدي، أو حوثيين وغيرهم، صراع دموي هنا وهناك يمزق دولة عربية تلو الأخرى .. فالعراق ليس بأحسن حال، ومصر تم اضعافها وتحاول النهوض مرة أخرى لتضمد جراحها، وتعيد بناء نفسها..
وعلى صعيدنا الفلسطيني .. عام مضى سمعنا فيه عن مصالحة واتفاق، لكنها باتت زائفة، سمعنا فيها عن اعادة توحيد الضفة مع القطاع، ويبدو أننا نحلم وننظر الى الغربان مرة أخرى، وهي تدمر وحدتنا وترسخ انفصالنا، لكنها تنعق..
وعلى صعيد القدس، فحدث ولا حرج ... نراها تتهود بأم أعيننا، نصرخ مستنجدين لكن لا أحد يسمع، وإن سمعوا فلا أحد يعمل، وإن أراد أحدهم أن يعمل أسكتوه .. المسجد الأقصى بات مستباحا، ولسنا نسمع إلا صوت " نعيق الغربان"!
عام مضى لا نحزن عليه، ولا نتقبل العزاء به، عام مضى سدى من عمرنا لم نحقق فيه أي حلم، ولا أي علم ، ولا أي نصر.. ولم أرى فيه ألا هذه الغربان تتصارع على من يمسك الخازوق بمنقاره، لكن الخازوق يبقى هو " الخازوق"!!!
لا حول ولا قوة الا بالله!