اطلس- قبل أن تجف الدماء في هذا الشتاء القاسي على أوراقه ومكاتب وحواسيب "شارلي إيبدو" صبغت دماء أخرى بياض الثلج في طرابلس شمالي لبنان، وهكذا أصبح الإرهاب على اختلاف عناوينه ومظلاته خطوط طول وعرض على امتداد كوكب لم تعد الإقامة فيه آمنة
لكن الأحداث الجسام لحظة سخونتها تعالج كما في حالات الطوارئ في المستشفيات بما تيسر من الإسعافات الأولية ويغلب على التعليقات حولها التعميم لكنها ما إن تبرد قليلاً حتى يتدخل العقل . ليضع حداً لانفعالات تحجب بعض الحقائق، وفي المثال الفرنسي كان يومان أو ثلاثة فرصة للتنوع في وجهات النظر، فثمة من يلوم أوروبا وكذلك الولايات المتحدة على ممارسات سياسية أنتجت العنف، ومنها ما كان حاضناً له، وهناك من ذهب إلى ما هو أبعد وأطلق على الإرهاب اسم الطفل المتوحش الذي أنجبته استراتيجيات لم تقم وزناً لما يتجاوز مصالح أصحابها .
بالطبع تتفاوت ردود الأفعال على أحداث من هذا الطراز بين بلد أوروبي وآخر، فالألمان على سبيل المثال حذرون من اتخاذ أي موقف تشتم منه رائحة العنصرية بسبب ما خلفته النازية من "فوبيا" في ذاكرتهم، أما البريطانيون فهم أقل حذراً وتحفظاً، لهذا كانت قراراتهم حاسمة فيما يتعلق بالعائدين من البؤر الملتهبة في الشرق الأوسط .
وفرنسا التي يشكل المسلمون خمس عدد سكانها لها حسابات أخرى، فثمة فرنسيون يمينيون تتلمذوا على أدبيات "لوبان" ومن اقتفوا خطاه يستثمرون هذه المصائب لتحويلها إلى فوائد، وذلك من أجل تكريس موقفهم من المهاجرين وإعادة النظر في قوانين الهجرة والتجنيس .
المثقفون الأقرب إلى العقلانية يبرئون مجمل المسلمين من هذه الجرائم لأن تحميل الوزر لأمة بأسرها به إجحاف وتعميم، لهذا فالسجال تزداد وتتصاعد وتيرته حول هذه الأحداث، لأن وجهات النظر والقراءات المتباينة تختلف من حيث مرجعياتها الثقافية .
لقد أصبح العالم شرقاً وغرباً يصحو كل يوم على جرائم ضحاياها مدنيون وأبرياء وحين يفجر انتحاري نفسه في مقهى، فهو لا يدرك بأن مكاناً عاماً كهذا يضم أشخاصاً غير متجانسين أيديولوجياً وسياسياً، لهذا فالحزام الناسف الذي يطوق خاصرتيه أعمى لا يفرق بين البشر، وقد يخطئ من يظن أنهم أعداؤه، فلا يصيب غير أبرياء لا ذنب لهم إلا الجلوس في مكان عام .
فهل سيتمدد الإرهاب إلى الحد الذي يعيد معه البشر من كل جنس ولون النظر في حياتهم اليومية، بحيث يفرض عليهم ما يشبه منع التجول بحثاً عن النجاة؟
إن هذا الاحتمال وحده يكفي لأن تتضاعف الجهود وتتعاظم لإنهاء هذا الوباء الذي لا يحصد في النهاية غير النبذ والكراهية وتوحيد خصومه على اختلاف آرائهم ضده .