اطلس- أدهشني، ودفعني كتاب "حيفا ليست قرطبة" -لدكتور الأحياء، الأستاذ في الجامعات الأميركية، شوقي قسيس، والمولود في حيفا العام 1947 (أنهى كتابته العام 2009)- إلى التفكير، والابتسام، والبكاء. والكتاب نوع من المذكرات (حتى لو قال إنّه ليس كذلك)، يروي فيه حياته في الرّامة قرب عكا. ولكن طريقة كتابته، وبعض قصصه، يثيران بشكل خاص فكرة الذاكرة والمذكرات؛ تلاعبها بنا وتلاعبنا بها.
يروي قسيس في نهاية الكتاب عن أم صلاح، التي كانت تعمل في حضانة في يافا يوم وقعت النكبة، وتشتت بين رام الله وجبل الحسين في عمّان. وعملت بعد وفاة زوجها في مدارس الوكالة، قبل ذهابها مع ابنها إلى بيروت حيث درس الكيمياء، وهاجر هو للولايات المتحدة وعادت هي إلى عمان. ثم لحقت بابنها مطلع التسعينيات. وعند اشتداد مرض الألزهايمر، لم يكن هناك بدٌ من نقلها إلى مركز متخصص للعناية بها. واجتمع لوداعها عشرون شخصاً على الأقل، وقفوا بجانب السيّارة، حيث نظَرَت نظرة خاطفة غير معهودة ممن أصيبوا بالألزهايمر. ثم ارتقت الدرجات راجعةً "برشاقة"، وجاءت بمفتاح بيت يافا الطويل (أكثر من شبر)، ووضعته في جيبها، ثم دَخَلَت السيّارة، وجلست مطمئنة، وبكى من حولها، حتى أحفادها الأربعة. وماتت بعد عام عن سن ثمانية وثمانين، ولم يكن المفتاح قد فارقها في ترحالها؛ خانتها ذاكرتها، ولكنها عادت لِبُرهة لتنقذ المفتاح.
يُخبرك قسيس كل القصص؛ اكتشاف الطفل للبيت والناس، بيوت بلا مرحاض، وبدء ركوب الحمار والحصان، وعذوبة ماء النبع، وأول قهوة، وأول...، ودخول المسجد والكنيسة. يُذهلك بتذكر كيف يبدأ تفتح الطفل على العالم، وإدراك ما حوله. ذاكرة تثير حتى دهشته هو، لأمور قبل سن العامين. يُدخِلك في مختبر للذاكرة نحتاجه لنفهم كيف نعي ونشعر ونلمس ونشم ونحب ونكره ونكبر ونتمرد.
لكن المذكرات تضمنت شيئاً غريباً: روى عن الطفل المبكر والشاب، ثم أغفل إلى حد كبير السنوات الوسيطة؛ سنوات انتقاله للولايات المتحدة وتكوينه عائلة هناك، وتحوله إلى عالم أحياء ينشر أكثر من مائة بحث علمي. وعندما جاء يتحدث عن التسعينيات، فإنّ جل ما فعله مقارنة الحاضر بالماضي؛ انتقد وغضب، وهاجم كثيراً من مظاهر الحياة في فلسطين الأولى، قريته الرامة، ولكنه وصفُ المُشاهِد الذي يأتي زياراتٍ تطول وتقصر، لديه حنين للمقارنة بالماضي، وليس وصف الفاعل الذي يعيش الحدث. لم يُفصّل، مثلا، عن سنوات الثمانينيات، عندما انتقل من كونه عالم أحياء عنده أربعة اختراعات مسجلة باسمه، ليؤسس قسماً جامعيا باللغة العربية، وقسما بالعبرية. وعدا عن التعليق على مشاهداته في بلده، علّق على مشاهداتٍ في زيارات لمصر والأردن وسورية ولبنان، في سياق حديث غاضب أو مديح في السياسة العامة، و"تنظير" يمكن أن تسمعه من كثيرين.
الأمر نفسه لاحظته في كتابة سِيَر ذاتية وغيرية لآخرين؛ مثلا (وليس حصراً) أغلب ما كتب عن خليل الوزير (أبو جهاد) يتعلق بأسرار البدايات وسنوات الفتوة في الخمسينيات، وسنوات ما قبل الاغتيال العام 1988. هل تعمل الذاكرة عادةً بهذا الترتيب: حنين وشوق ووصف رائق ومتأنٍ للبدايات، ثم إغفال للوسط، ثم تعليق وانتقاد ومقارنة الحاضر بالماضي؟ سؤال برسم المزيد من النقاش. هل لأنّ الماضي القريب ما تزال له تبعات فنخشى التبحر فيه، والحاضر جزء من معركة نعيشها فيأتي حديثنا عنه نقداً أو انحيازاً، وليس تأملاً وتفصيلاً؟
في نهاية الكتاب، يروي شوقي، بنفس روح الأجزاء الأولى من "روايته" نقاشاته مع ابنه وابنتيه. يكاد يروي مذكراتهم مقارنة بنفسه، مع ظواهر تستحق الدهشة. مثلا، ناقش ابنه وهو في الجامعة، مسرحيات شكسبير وشخصياته، وأذهله تشابه آراء ابنه مع آراء والد شوقي غير الاعتيادية، ومناقشاتهما للمسرحيات والشخصيات ذاتها يوم كان في سن ولده: "كدتَ لا تحتمل ذلك. هل تباحث في هذا الموضوع مع والدك الذي توفي قبل أن يولد هو؟!".
تَسمَع البنت الصغرى أسماء، وهي عاكفة على حاسوبها، قصص البنت الكبرى ليلى، مع أبيهما، عن جدها إبراهيم وهو يطعمها اللوز في بيت الرامة، قبل بلوغها العامين. فتصرخ: "يا ربّي، ليش تّني أنا بعرفوش لجدو إبراهيم؟!".
لعل هناك من يقول: "يا ربّي، ليش تّني أنا معشتش بحيفا؟!".