ولكن وفي ظل هذا الزخم من كل حدب وصوب، ومع تواصل الاعلانات عن هذه المنح وبشكل وكأنه انجاز يحسب له، فإن السؤال المطروح هو هل قمنا بدراسة تقييمية لطبيعة او لنوعية هذه المنح، ولشروطها ومعاييرها، والاهم حول مدى حاجتنا اليها، ونحن نعلم ان الطالب الذي سوف يحصل على احدى هذه المنح، وفي احدى الدول، القريبة او البعيدة عنا، سوف يقضي على الاقل اربع او خمس سنوات من عمره ومن التعب والجهد ومن البعد عن الوطن، والاهم كذلك، هو هل قمنا بتقييم مدى الاستدامة في الاستثمار في مثل هذه المنح، اي مدى قيام الطالب بعد التخرج بالمساهمة في مساعدة نفسه وبلده ومجتمعه وفي المشاركة في تنميته؟
وكانت قضية او اشكالية ما حدث في المنح التعليمية، لطلبة الطب الفلسطينيين في "فنزويلا"، قد اثارت لغطا وجدلا ونقاشا، ربما طال قطاعا واسعا من الناس، ان لم يكن الرأي العام برمته، وليس فقط بسبب تداعيات هذه القضية بحد ذاتها، ولكن بسبب امكانية تكرار او تشابه قضية هذه المنح، على منح اخرى، او على استحقاقات واختيارات اخرى، او بالادق، فيما يتعلق بموضوع الكفاءة والاحقية والنزاهة والشفافية في موضوع الاختيار او التعيين او الترشيح او الترفيع، سواء اكان ذلك، لمنحة او لوظيفة او لمكافأة، او النقاش المتواصل والمتكرر، حول موضوع الشخص المناسب في المكان المناسب؟
وهذا وبدوره يفتح ملفا اكبر بكثير، من موضوع اللغط حول الاحقية او طريقة الاختيار في هذه المنح، الا وهو موضوع الواسطة او المحسوبية او الاتكالية، او حول الفرق بين الاجراءات والمتطلبات من اجل الحصول على الفائدة او المنحة، وبين ما يتم في الواقع وخلف الاضواء، بعيدا عن الكفاءة وعن الخبرة والشهادة والقدرة وما الى ذلك، وهذا ما اشارت اليها دراسات عدة في بلادنا، على ان موضوع الواسطة والمحسوبية، هو احد مظاهر الفساد المنتشرة والمتجذرة، سواء على صعيد المؤسسة او على صعيد الفرد؟
ويبدو ان ما اعطى موضوع المنح التعليمية في فنزويلا، الاهمية او الصخب والضجيج، هو حدوث ذلك الاشكال او التداعيات، مع جهات خارجية، ربما ما زالت تلتزم بمعاييرها من المتطلبات ومن الشفافية، وبعيدا عن التأثيرات او التدخلات التي تتم من الكبار وما يحيط بهم، وموضوع تجذر الواسطة والمحسوبية، او بمعنى اخر تجذر شكل من اشكال الفساد، الذي يقتل الكفاءة والمبادرة وروح العمل والابداع، يتطلب نقاشا شاملا، وبالاخص في كيفية التخلص او التقليل من هذه الافة، التي اصبحت عند البعض، يتم التباهي بها والسعي اليها او القيام بها، كمظهر من مظاهر القوة والوصول والتأثير وما الى ذلك؟
ولا يجادل احد ان الفساد، وبأنواعه، من استغلال السلطة، ومن محسوبية وواسطة، هو من اهم معيقات التنمية والتقدم، وحتى من اهم اسباب فقدان الثقة عند المواطن بامكانية التقدم والتنمية، ونلاحظ ان معظم الدول، سواء في محيطنا العربي او العالم قامت بإنشاء هيئات او اطر او اجهزة لمكافحة الفساد، وتم ربط ذلك وبوضوح مع التنمية ومع التخلص من الفقر والبطالة والجهل، وباتت اي عملية تغيير سياسي في اي بلد تنادي اولا بمكافحة الفساد، سواء اكان فسادا سياسيا، او اقتصاديا، او فساد التعليم، او احتكار الاسعار، او المتاجرة بالاغذية والادوية الفاسدة، وباتت الدول المانحة وما ينبثق عنها من مؤسسات دعم، تشترط النزاهة والشفافية وتربط بما يتم تقديمه من اموال للتنمية وبانواعها، بوجود دوائر المتابعة والتقييم والتدقيق وما الى ذلك، وبدون شك ان للفساد انعكاسات كثيرة، على البلد والمجتمع والمواطن والمستهلك.
وعندنا، كان واضحا من خلال استفتاء قامت به احدى هيئات مكافحة الفساد في بلادنا، ان الواسطة والمحسوبية هما من اكثر انواع الفساد تفشيا في مجتمعنا الفلسطيني، في مجتمع تبلغ نسبة البطالة فيه حوالي 27%، وتتعدى نسبة الفقر فيه ال 20%، وبالتالي هناك العوز والحاجة والاستجداء ومن ثم الواسطة وبانواعها، ولكن حين يتم ذلك، فإنه يتم على حساب الكفاءة والاستحقاق والشخص المناسب في الموقع المناسب، ولتغيير هذه الثقافة، فإن ذلك يتطلب وقتا وعملا وجهدا والاهم هو ترسيخ الاقتداء بمن يملك المنصب الاعلى والمسؤولية الاكبر والقدرة الاقوى، ويتطلب بث الوعي، ويتطلب تطبيق القانون وعلى الجميع، وبالتالي ازالة الانطباع عند الناس ان من يتم محاسبتهم او ملاحقتهم او محاكمتهم، هم من الصغار او من الضعفاء او الفقراء، او الذين لا يوجد لهم حماية او دعم او نفير او سند.
والمحسوبية والواسطة، كأحد مظاهر الفساد كانت وسوف تبقى، من اهم معيقات التقدم والتنمية، وبدون شك ان هناك تقدم كبير في السنوات الماضية في مجال مكافحة الفساد في بلادنا، سواء من حيث بث الوعي او من حيث الاجراءات على الارض، ولكن ما زالت هناك ثغرات، وما زال هناك خوف عند المواطن للابلاغ عن الفساد، وما زلنا نلحظ في احيان ان تطبيق القانون يبطئ، وما زلنا نكتشف الاغذية الفاسدة والادوية غير الصالحة، والمنح التي لا تتم بالشكل الصحيح، وما زالت الواسطة تنخر في اجسادنا، وهذا كله يتطلب المزيد من العمل معا، وزيادة التواصل مع المواطن الذي هو الاساس في عملية مكافحة الفساد.
ومع تواصل زخم الاعلان عن المنح التعليمية الكثيرة والمتنوعة، وفي ظل الاشكالية التي حدثت حول موضوع المنح التعليمية في فنزويلا، والتي يمكن ان يكون لها تداعيات او انعكاسات سلبية، سواء على غيرها من المنح، او على ثقة الدول المختلفة التي تقدم المنح في طريقة الاختيار، او حتى على ثقة المتقدمين للمنح في اجراءات الاختيار ومعايير الاستحقاق، فإن ذلك يتطلب عدم اغفال هذه القضية، ولكن متابعتها وبشكل موضوعي، وتحديد الاخطاء والتجاوزات وكذلك يتطلب التروي والدراسة بعمق لمدى حاجتنا لنوعية ولطبيعة المنح التعليمية، قبل الاعلان عنها، ومن ثم البدء في استقبال مئات بل الالاف من الطلبات.